رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :في مجتمع مغلق الوضوح جريمة

يعتقد كثيرون ان الكاتب او الفنان هو من يخلق اسلوب كتابته أو فنه وهذا غير صحيح،
إلا اذا كان من صنف كاتب أو شاعر أو فنان” صنعة”، منتحل أساليب، لأن الكاتب والفنان والشاعر الأصيل يعيش اسلوبه كحياته، أي أنه أسير أسلوبه وشخصيته وليس خالق اسلوبه والعبارة الشائعة ان الاسلوب هو الشخص صحيحة تماماً.
الفارق بين الكاتب والمستكتب الصانع والمنتحل الذي تحدث عنه الناقد البنيوي الشهير رولان بارت هو ان الكاتب حقل إكتشاف وخلق والمستكتب اجترار وصقل.
هناك كاتب يحاول ان يجعل من الكتابة حقل اكتشاف وخلخلة وزعزعة،
اي سفر الى أقاصي الظلام والمناطق المعتمة المنسية، بصرف النظر عن رأي الجمهور ورضاه لان الجمهور ليس معيار الخطأ والصواب والكاتب ليس مطرباً همه ارضاء أو حب الجموع بل يعمل على التحريض على الوعي وكشف المسكوت عنه واللامفكر فيه أو يصمت.
هناك” مستكتب” يصقل ما يقرأ والفارق بينهما ان الكاتب يغوص بحثا في الاعماق عن اللؤلؤ، واللذة ليست في الحصول بل في المغامرة، وغالباً ما نقرأ لكبار الكتاب عبارة: أنا أكتب لأتمتع. الكتابة متعة وسفر في الأعماق قبل أن تكون رسالة.
الثاني المستكتب والمنتحل هو صاقول يتقن فن استعارة الكلمات لا خلقها للابهار. في قصائد النثر اليوم عملية تسليب واستنساخ لقصائد كافافيس وريتسوس وخايمي سابينس وغيرهم أمام جمهور غير متخصص.
الانتحال ظاهرة قديمة والأدب العربي القديم عرف هذه الظاهرة وتحدث عنها طه حسين في كتاب شهير”في الشعر الجاهلي” أثار ضجة كبرى يقول فيه إن كثيراً من الشعر العربي بما في ذلك المعلقات كتب بعد الاسلام ونسب للجاهلية، أي منحول على يد المنتحلين حماد الراوية وخلف الأحمر وهما من كبار النحاة ومشهوران بوضع الأشعار واسنادها لكبار الشعراء حسب اسلوب كبار الشعراء العرب كالشنفري وامرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعمرو بن كلثوم، والنابغة الذبياني، والحارث بن حلزة، والأعشى الأكبر، ولبيد بن ربيعة، والمهلهل.
تم منع الكتاب لأنه قوض مرحلة من التاريخ قد تجر الى قضايا أكثر حساسية وقد هوجم بعنف لأن طه حسين بتقويضه تاريخ الشعر العربي ، قوض مرحلة كاملة من التاريخ، وهذا أمر خطير ومساحة مقدسة لا تمس.
فرق الناقد البنيوي الشهير رولان بارت بين الكاتب وبين المستكتب:
الكتابة حقل مغامرة فكرية والدخول في المناطق المحرمة واللغة حقل اكتشاف وليس قاموس اجترار،
في حين المستكتب مهرج وبهلوان سيرك هدفه ابهار الجمهور لا ايقاظه، ويكتب باللسان واللسان تشريع يقول المتفق عليه، ومن يكتب بلسانه غير من يكتب بذاته: اللسان سلطة وحافظ قوانينها وظاهرة قطع اللسان الخارج عن المألوف معروفة في تاريخنا، لأن اللسان أرشيف عام مُلقّن وملكية عامة لا يحق له الخروج عن السائد والمتفق عليه في حين الفكر والادب والفن نتاج ذات فردية ضد القاموس وتمرد عليه ومن هنا التعارض والعداء بين سرديات الذات وسرديات السلطة او الجماعة.
المستكتب كما المطرب يحب ان يكون مرغوبا من الجميع ويفكر في الجمهور لا بجوهر الكتابة، مع ان الكتابة تمرد بنّاء وطريق جديد وحالة يقظة،
المستكتب لا يكتب بالذات لانه بلا ذات فردية بل مجمع ذوات تصلح لجميع الاذواق بل يكتب بالقاموس لذلك يسمى الصاقول وبلغة عمال البناء: اللباخ، وهدف المستكتب ارضاء الناس وتقديس الاوهام لأجل مصالح خاصة كما فعل الكاتب” الثوري” الداعية وجه السياسي الخلفي.
المستكتب ” محبوب” من الجماعة بل أقرب الى المطرب لأنه كموسيقي الشوارع على الرصيف يسمعهم اللحن الذي يريدونه ، يكتب برصانة شكلية امام بحيرات دم، ويتظاهر بالعقلانية أمام انهيارات الناس، ويبدو متماسكاً أمام المذبحة، وكلها أقنعة مزيفة للحفاظ على اعجاب الحشود التي لا تفكر أصلاً لأن الحشود ولاء وطاعة.
في حين يذهب الكاتب الى هز أوهامهم التي تعايشوا معها وتحولت الى حقائق بالتكرار والاجترار بل الى قوانين واعراف. مرجعية الكاتب هي الحقيقة بلا ولاء لاحد ومرجعية المستكتب الجمهور العام ورضاه على حساب مصير وحياة ومستقبل الجمهور ولم يكن الجمهور العام حكماً يفصل بين الحقيقة وعكسها لان الجمهور ليس كتلة واحدة منسجمة. الجمهور ليس معيارا للخطأ والصواب لأنه رغبات وأهواء ومقاييس مختلفة يستحيل التوافق معها بالاضافة الى انها قوالب اتفاقية لا علاقة لها بالحقيقة حتى الانبياء وقفوا ضد الجمهور وتعرضوا للطرد والنبذ والتهديد، وكما قال الكاتب أمرسون:
” رجل واحد شجاع يشكل أغلبية” الحقيقة لا تخضع لمنطق الاغلبية والاقلية وهناك حقائق قيلت في صحراء قبل قرون وصلت الينا اليوم.
حتى اليوم مكتوب على قبر نيتشة المدفون كمنبوذ خارج مقبرة الكنيسة الذي يعتبر مؤسس الحداثة الغربية:” هنا يرقد الزنديق فريديريك نيتشه “. لكنه كان واثقاً من نفسه رغم كل العواصف التي تهب عليه وكل الانكار هو القائل:” هنالك أناس يولدون بعد الممات”
حيث كان يعتبر آراء العامة كالأفاعي فوق رأسه وعليه قطعها.وهو ما حدث له: ولد بعد الموت وماتوا، أحياءً، كل الذين طاردوه وتجاهلوه عدا سالومي المثقفة التي وقفت معه بثقة حتى النهاية ووضعت اول كتاب نبوئي عنه بعنوان:” نيتشة: سيرة فكرية” عام 1894 وهو حي متحدية الجميع بما في ذلك سلطة الكنيسة بعد علاقة متينة وعاشت معه فترة في عزلته في جبال الألب السويسرية وتوغلت في روحه واعماقه بحس استثنائي وكانت مصدر فرحه الكبير.
الكاتب ضد الجمهور وآخر همه كمثقف ارضاء العامة بتعبير أدوارد سعيد” بل ان يكون مكدرا للصفو العام ومحرجا وضد كل الاوصياء” ولو كان متصالحا مع الجميع فلماذا هو صورة مستقبل؟ لماذا لا يصبح بائع شاورمة بتعبير حنا مينا؟ لماذا لا يفتح بقالية ؟
على الكاتب أن يحترم السطحية والتفاهة والهراء والغوغأة والطائفية والعرقية كوجهات نظر لكي يكون مقبولاً او لا يكون ديمقراطياً ولا ينفعل من الضحالة لأنها” وجهة نظر” ، ألا يعبر عن انفعال لانه ليس بشراً بل حجراً، مع ان الانفعال جزء من الفكر كما اثبتت مدارس علم النفس الحديثة واي فصل بين الفكر والانفعال المنتج وبين العقل والقلب وبين المشاعر والعقلانية هو فصل تعسفي عفى عليه الزمن وصار من مخلفات الماضي.
المستكتب رهين تاريخ سردي ملفق لا يخرج عنه، وأسير قوالب شعبية والناس عادة لا تحب تغيير أوهامها لأن التعايش معها شرط الاستقرار النفسي المزيف كطمأنينة الأبقار تسرح في العشب قرب جدران المسلخ، أو” المواطن المستقر”.
لكن المستقر على ماذا؟ على تاريخ متخيل، وعلى حاضر مبني على أكاذيب معقلنة ، وعلى آمال زائفة.
المستكتب يلبي حاجة هذا الجمهور بل يدفعه أكثر للتعلق بالاوهام لان من مصلحته الشخصية بقاء الجمهور في غيبوبة لبيعه الاوهام وفكرة الاختلاف مع الجمهور ملغية عكس كل تاريخ الكتابة والثقافة والادب والفكر الذي وقف ضد مؤسسات راسخة وحارب أوهاماً مشرع لها بقوانين ودفعوا أغلى الاثمان نفياً وسجناً واقصاءً.
لم يحدث عبر كل تاريخ الكتابة ان مستكتباً غير شيئاً أو ترك أثرا بعد موته، فموته الأول هو الاخير. من يعتقد ان على الكاتب أن يكون” متطابقاً” و” متصالحاً” و” منسجماً” مع الجمهور وخاصة في العالم العربي، هو ضحية تلقين الأحزاب الشمولية التي أفرغت الانسان من التفكير وحولته الى وعاء للتفريغ،
وحتى بعد افلاس هذه الاحزاب التي ربت قطعانا من الببغاوات، لكنها تركت فهماً خاطئاً وفظيعاً في أن على الكتاب أن يعزف كزمار الشوارع لمن يريد سماع اللحن.
صنعت هذه الأحزاب دمى بعنوان وروجت لهم وانتهوا نهايات مخيفة: بين من صار مقدم برامج عند مقاول انتهازي، وبين من صار مستشارا في صحيفة ثري خليجي كان قبل سنوات يتهمه بالرجعي، وبين من يحاول تلميع مسامير تابوته الصدئة لكي لا ينساه الناس ، وبين من صار محللاً في الفضائيات في كل شيء، وبين من صار” كاتب ” خطابات زعيم حزب بعنوان أجير.
من لغة هؤلاء الخالية تماما من اي مفردة في الفكر الحديث وتعود الى منتصف القرن الماضي، صرنا نعرفهم من العبارة الاولى كما يعرف ميكانيكي لغة ميكانيكي آخر وكما يعرف طبيب لغة طبيب اخر وكما يعرف بنّاء من كلام بناء مهارته او قدرته لان كل مهنة تترك بصماتها.
يستطيع هؤلاء خداع الجمهور ، وفعلوا عشرات الأعوام، لكنهم لا يستطيعون خداعنا برصانة مزيفة وانشاء لغوي مدرسي باهت ، وشعارات مستهلكة، لأنه من الصعب جدا بيع الماء في حارة السقائين، أو بيع الفحم في نيوكاسل كما يقول المثل الانكليزي لانها تشتهر بالفحم أو مثل من يبيع أحذية في ديرة “عفج” في منتصف القرن الماضي في زمن كان الناس يمشون فيه حفاة وخلفهم نيران آبار النفط مضيئة ومن هنا المثل” قيّم الركّاع من ديرة عفج”.
امام كل هذا التوحش في كل مكان، يصبح التظاهر بالعقلانية زيفاً، وافتعال الرصانة امام قتل الاطفال الرضع مرضا خطراً،
وأمام صراخ الناس تحت المقاصل.
يحاول المستكتب أن يظهر كمن يتفرج على فيلم أو يسمع حكاية قديمة لان ولادة المثقف العربي تمت في قصور الملوك والسلاطين كمدون حروبهم وكاتب سيرتهم، في حين تاريخ ولادة المثقف الغربي ضد كل المؤسسات واعاد بناء صياغة الدول وحداثة جامحة بصرف النظر عن النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاعلامية بل ضدها.
تاريخ الكتابة تاريخ عصيان بالافكار والكلمات بلا دبوس ولا سلاح، والكاتب والمثقف الحقيقي لا يولد بالتوافق والانسجام مع الجمهور ــــ وهو من شروط القطيع ــــ بل يدخل في صراع معه لاجل حياة أعدل وأنقى وأبهى للجمهور.
الكاتب ” مجنون” أمام” عقل ” المستكتب ولو فحصنا عناصر هذا” العقل” لوجدناه أقرب الى الخبل ولم يحدث في تاريخنا أن خرب مجنون حياتنا بل خربها ” عقل” المستكتب صناعة المؤسسة الحزبية والاجتماعية ومسوغ مشاريعها التي انتهت بحمامات دم وشعوب هائمة تبحث عن ملاذ آمن كما لو أن كل تلك الكوارث من صنع اشباح وليس من صنع عقل المستكتب اجير الاحزاب الذي جهز دولنا للاحتلال والخراب اليوم والى سنوات قادمة ولم يكسر الكاتب النقدي في كل ما كتب عود ثقاب بل حاول اشعال شمعة في الظلام لمخلوقات في مجتمعات مغلقة تعتبر الوضوح جريمة في حين المجتمعات المفتوحة تعتمد الوضوح والشافية والعلنية وليس القوم في السر غير القوم في العلن، وما يقال عكس ما يفكر فيه، وما يفعل عكس ما ؤيقول، وهذه الشخصيات المشوهة قادتنا الى صناعة المجتمع المستشفى المريض.
الكاتب يدخل في صراع ومنفى من لحظة التخيل وحمل القلم بتعبير الناقد الفرنسي فانسان جوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى