رؤي ومقالات

د.فيروز الولي تكتب:الهزل الذي يحكم الجِدّ… اليمن نموذج بلد يتنفس المفارقة

في العالم الطبيعي، تسير الأمور بمنطق: هناك دول جادّة تُدار بجدّ، ودول هزلية تُدار بالابتسامة والرقص. أما في اليمن، فلدينا مدرسة ثالثة نادرة: سلطة تمارس الهزل، وشعب يعيش الجِدّ، وعندما تقترب الانتخابات تنقلب المعادلة. فيتحوّل الشعب إلى “المهرّج الوطني”، وتتحول السلطة إلى “أستاذ الجديّة” الذي لم يفتح كتابًا يومًا.
أولًا: التحليل النفسي — بلد يعاني من ازدواج الشخصية
المواطن اليمني يغادر بيته كل صباح مقتنعًا أنه يعيش “مرحلة انتقالية”، ثم يعود مساءً ليكتشف أن المرحلة الوحيدة التي انتقلت هي أسعار السوق.
السلطة تعاني عقدة نادرة: تؤمن أن كل شيء في البلد مؤقت… ما عدا كراسيها.
والشعور الجمعي؟ مزيج من الصبر، والسخرية، و”الله يستر” المزمنة.
ثانيًا: التحليل الاجتماعي — مجتمع جاد تحكمه سلطة هزلية
اليمنيون يعملون، يدرسون، يسافرون، يتزوجون، يهاجرون… كل ذلك بجدية.
أما السلطة، فتبدع في الهزل:
قرارات بلا خطة،
خطط بلا ميزانيات،
ميزانيات بلا دولة،
دولة بلا كهرباء.
ومع ذلك، يستمر الشعب في الحياة، يحوّل الأزمة إلى طقس يومي، والمعاناة إلى جدول، والنكتة إلى دستور موازٍ.
ثالثًا: التحليل الثقافي — ثقافة البقاء في بلد لا يبقي شيئًا
اليمن بلد يقرأ تاريخًا مجيدًا، ويعيش حاضرًا مجهدًا، ويحلم بمستقبل “ما يتغسلش بسرعة”.
تراث غني… لكنه تحت الركام.
فن واقعي… لكنه بلا منصة.
شباب مبدعون… لكن البيروقراطية تضعهم في “وضع الانتظار” الدائم.
رابعًا: التحليل الاقتصادي — اقتصاد قائم على الدعاء والصبر
الاقتصاد اليمني ليس منهارًا… بل يعيش في “علاقة مفتوحة” مع الانهيار.
الأسعار تصعد بلا سبب، مثل معنويات مسؤول حكومي بعد أول تصريح له.
الدولة تعتمد على المساعدات، والمواطن على الله، والمستثمر على خارطة النجوم ليعرف متى لا تنفجر أزمة جديدة.
خامسًا: التحليل العسكري — جيش بعدد الجبهات أكثر من عدد الجنود
العسكري اليمني لديه ثلاث وظائف:
1. حماية الجبهة،
2. مراقبة راتبه الغائب،
3. البحث عن شاحنته التي أخذها القائد لاستخدام شخصي.
كل جهة لديها جيش، وكل جيش قائد، وكل قائد دولة، وكل دولة شعار… لكن ولا واحدة لديها كهرباء.
سادسًا: التحليل السياسي — سياسة تُدار بمنطق “من سبق لحق”
السياسة اليمنية مثل مباراة كرة قدم بلا حكم، ولا جمهور، واللاعبون يتبادلون المراكز حسب المزاج.
المعارضة تصبح سلطة، والسلطة تعود معارضة،
والحلقة تدور بلا نتيجة.
أهم إنجاز سياسي سنوي: إعادة تدوير نفس الوجوه ببيانات جديدة.
سابعًا: التحليل الدبلوماسي — دبلوماسية “نعتذر عن الخلل غير الفني”
الدبلوماسي اليمني يذهب إلى العالم حاملًا هموم شعب، ويعود حاملًا “صورة تذكارية”.
العالم ينتظر خطة، والوفد يقدم كلمة ارتجالية.
العالم يريد رؤية، والوفد يقدم بيانًا “بسم الله نبدأ” الذي لم ينتهِ منذ ثلاثين سنة.
الخاتمة — مهزلة تحكم الجِدّ… لكن باب الخروج موجود
نعم، نحن بلد تُدار بالهزل، ويُحكم بالجِدّ، ويعيش بينهما في منطقة رمادية لا يفهمها حتى أينشتاين نفسه.
لكن الخروج من هذه الدوامة ليس أسطورة:
نحتاج دولة تحترم نفسها، وسلطة تعرف قيمة الجديّة، وشعبًا يرفض تحويله إلى “كومبارس” في مسرحية الآخرين.
نحتاج قادة لا يخافون من الكفاءات، ولا يطاردون النزيه، ولا يعتبرون النقد خيانة. ونحتاج إرادة جماعية تقول بصوت واحد: “كفى هزلًا… فقد اكتفينا جدًّا.”
الخاتمة الإضافية — حين يتحول الهزل إلى نظام حكم… لا بد أن يتحول الجد إلى ثورة وعي
في النهاية، لا يمكن لليمن أن يظل رهينة سلطة تتعامل معه كبرنامج كوميدي موسمي.
الهزل يمكن احتماله في المسرح، لا في السياسة.
النكتة يمكن تبادلها في المقيل، لا كتابتها في الدستور.
رؤيا الخروج من الهزل:
1. دولة تُدار بالعقل لا بالمزاج.
2. قيادة تعتبر الكفاءة معيارًا لا القرابة أو الولاء.
3. مجتمع يرفض دور الضحية أو المهرّج.
4. نخبة تبني لا تتغذى على الفوضى.
5. مشروع وطني واحد… لا مشاريع صغيرة تتقاسم البلد كغنيمة.
الخلاصة النارية:
لن يخرج اليمن من دائرة الهزل إلا حين يقرر — بلسان واحد، وجِدّ واحد — أن:
الكرسي ليس مسرحًا، السلطة ليست مزحة، والشعب ليس جمهورًا يدفع ثمن التذاكر.
وعندها فقط… ستسقط اللعبة، وترتفع الدولة، ويولد اليمن الذي يستحقه أبناؤه: يمنٌ لا يُدار بالصدفة ولا يُحكم بالنكتة، بل يُبنى بالعقل والإرادة والكرامة.
فيا بلد الهزل… آن لك أن تدخل عصر الجِدّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى