رؤي ومقالات

أحمد السيد النجار يكتب :رسالة مفتوحة للرئيس الانتقالي لسورية الشقيقة: أحمد الشرع

منذ أن صرحتم بأن مصر دولة غير مواكبة للتطور مثل السعودية أو قطر أو الإمارات أو تركيا، تصاعدت موجة من التلاسن الإعلامي الذي يثير الشقاق والمزيد من الاحتقان الذي لا تحتاجه الدولتين الشقيقتين. لقد فاتكم أن الأعراف الدبلوماسية لا تسمح بتلك المقارنة التي يحق للباحثين والإعلاميين في مصر وسورية التحدث عنها، لكن لا يحق للمسئولين الخوض فيها. وفي مصر عندما قارن أحد الوزراء تكلفة البنية الأساسية المصرية مع نظيرتها في دولة عربية أخرى، وجهنا له انتقادات لاذعة لأن تصريحاته غير لائقة وتتجاوز على الأعراف الدبلوماسية. ولا يجوز مقارنة تصريحك، مع تصريح الرئيس المصري بأنه لا يريد لمصر أن تصبح مثل سورية وليبيا في زمن الاحتراب الأهلي والأعداد الهائلة من الضحايا والمشردين واللاجئين وانهيار الاقتصاد والبنية الأساسية، فهذه ليست كتلك، وكل دول وقيادات العالم لم تكن تريد لبلدانها أن تكون في مثل أوضاعكم في زمن الاحتراب.
وبداية فإن متحصلات الدولة عن حقوق الملكية الفكرية والتي تعبر عن مدى تطورها، بلغت في مجموع الوطن العربي نحو 237,1 مليون دولار عام 2022، وهي قيمة بائسة، لكن حصة مصر وحدها منها بلغت 157 مليون دولار بما يعادل 65,9% من الإجمالي العربي، فمن هو الأكثر مواكبة للتطور؟
ومن المؤكد أن انخراطكم مع إرهابيي داعش ومن بعدها النصرة بكل ما أحاط بهما من دماء ودمار، لم يترك لكم فرصة حقيقية لتحصيل المعرفة، بما يوجد لكم بعض العذر في عدم العلم بقيمة وقامة أكبر دولة في الوطن العربي التي أشرتم إلى أنها لا تواكب التطور في دول مثل السعودية وتركيا، وإمارات مثل قطر والإمارات، رغم أن المعلمين والمهندسين والأطباء والباحثين والصحفيين وكل المهنيين والصناع المهرة والعمال المصريين، يشاركون في صناعة النهوض في تلك البلدان على قاعدة تبادل المصالح.
كما ينتشر الأطباء والعلماء المصريين في أوروبا والولايات المتحدة ويحققون إنجازات فارقة للبشرية بأسرها ومنهم د. أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء ود. مجدي يعقوب أعظم جراحي القلب في العالم، ود. مصطفى السيد أحد أهم الخبراء العالميين في تقنية النانو، ود. نادر حنا أسطورة جراحات الأورام والجهاز الهضمي عالميا، ود. حسن مرتضى أحد أهم أساتذة طب العيون والشبكية في العالم، وعالمي الفضاء د. فاروق الباز، ود. عصام حجي، ود. هاني عازر أحد أهم الاستشاريين في العالم في الهندسة المدنية وفي بناء الأنفاق والسكك الحديدية ومحطاتها، ود. ريموند شنازي الذي اكتشف علاح فيروس سي وقدمه لمصر بسعر لا يزيد على 1% من سعره العالمي محبة في بلده الأصلي. أما إسهام مصر في الآداب والسينما والمسرح والفنون التشكيلية عربيا وعالميا فإنه استثنائي، وجائزة نوبل للعظيم نجيب محفوظ هي إحدى تجليات القيمة العالمية لما تقدمه مصر في هذا الشأن.
أما ما قدمته مصر للإنسانية وللمنطقة على مر التاريخ فيحتاج لموسوعات لسرده، لكن يكفي أن نذكر أنها هي التي شكلت فجر ضمير الإنسانية ببناء قواعد العلم والأدب والفنون والثقافة والأخلاق والأديان والتوحيد وهيكل الدولة والحكم في أول دولة مركزية كبيرة عرفها التاريخ، مما جعل جيمس بريستيد يعنون كتابه عن الحضارة المصرية بـ “فجر الضمير”، وهو في ذلك يتفق مع عدد كبير من علماء التاريخ والمصريات.
وليس معنى هذا أن الوضع لدينا مثالي فلدينا انتقاداتنا لأداء الحكومة في مجال الحريات، وانتقادات تتعلق بتقصير الدولة في الإنفاق العام على الرعاية الصحية، والتعليم، والبحث العلمي، رغم أنها بالنسبة لهذا الأخير تنفق 0,9% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 0,5% في السعودية، و 0,7% في قطر، و 0,02% في سورية، ونحو 1,5% في الإمارات، علما بأن المتوسط العالمي يبلغ 2,3% من الناتج العالمي. كما ننتقدها لتركيزها على البنية الأساسية دون الصناعية والإبداعية، وننتقدها لأزمة المديونية التي أدخلتنا فيها ولجأت لأسوأ الحلول لمعالجتها عبر بيع قطع من أرض الوطن لإمارات وثيقة العلاقة والمصالح بالكيان المجرم.
وفيما يلي بعض المعلومات البسيطة المنشورة في المطبوعات الدولية حتى تعلمون من هي مصر التي تبقى هي الكبيرة حتى وهي تمر بظروف شديدة التعقيد…
بلغ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمصر، أي المحسوب بالدولار وفقا لتعادل القوى الشرائية، نحو 2227 مليار دولار عام 2024 بما يضعها في المرتبة الـ 17 عالميا، مقارنة بنحو 2109 مليار دولار للسعودية التي تشغل المرتب الـ 18 عالميا، ونحو 848 مليار دولار للإمارات، ونحو 350 مليار دولار لقطر. ووفقا لتوقعات صندوق النقد الدولي في الأجل المتوسط والممتدة لعام 2030، والمنشورة في قاعدة بيانات تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي (أبريل 2025)، فإن الناتج المحلي الإجمالي المصري المحسوب بالدولار وفقا لتعادل القوى الشرائية سيبلغ في عام 2030، نحو 3333 مليار دولار، مقابل 2902 للسعودية، ونحو 1239 مليار دولار للإمارات، ونحو 517 مليار دولار لقطر، علما بأن مصر لا تملك سوى 2,9 مليار برميل من احتياطيات النفط، ونحو 2,2 تريليون متر مكعب من الغاز، بينما تملك السعودية 267 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية، ونحو 9,5 تريليون متر مكعب من الغاز. وتملك الإمارات 113 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية، ونحو 8,2 تريليون متر مكعب من الغاز، وتملك قطر 25,2 مليار برميل من النفط، ونحو 23,8 تريليون متر مكعب من الغاز. وهذا يعني أن الناتج في مصر لا يعود بالأساس لموارد طبيعية، بل لناتج العلم والعمل في اقتصاد متنوع زراعيا وصناعيا وخدميا.
ولو عدنا للوراء في عام 1965، فإن بيانات صندوق النقد الدولي في تقريره السنوي عن الإحصاءات المالية الدولية (IFS) تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي المصري المحسوب بالدولار وفقا لسعر الصرف بلغ 5,1 مليار دولار، مقارنة بنحو 2,3 مليار دولار للسعودية بكل نفطها، بينما كانت إمارات الساحل المتهادن وقطر في رحم الغيب!
وبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج الحقيقي المحسوب بالدولار وفقا لتعادل القوى الشرائية عام 2024، نحو 20750 دولار. وتأتي مصر في هذا الشأن خلف الدول النفطية الخفيفة السكان في الخليج، وقبل باقي الدول العربية بما فيها دول نفطية كبرى مثل العراق والجزائر وليبيا. وقد لا يشعر المواطن العادي في مصر بذلك نتيجة سوء توزيع الدخل كما هو الحال في كل الدول العربية بلا استثناء، لكن تبقى حقيقة أنها تتقدم على كل الدول العربية غير الخليجية في هذا المؤشر.
أما الصناعة التحويلية المعبرة عن تطور أي اقتصاد نامي أو ناهض، فإن إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي العربي، بائس وبلغ 11,7% فقط من ذلك الناتج عام 2023، بينما بلغ في مصر 16,8%، مقارنة بنحو 15,5% في السعودية، ونحو 9,3% في كل من الإمارات وقطر. وحتى صادرات الصناعات عالية، بلغت 2% في مجموع الوطن العربي، بينما بلغت نحو 3% في مصر وقطر، ونحو صفر في السعودية، أما الرقم الخاص بالإمارات والبالغ 9% فيعود للتجارة المحولة وليس للإنتاج المحلي، نظرا لأنها أحد أهم المراكز الإقليمية والعالمية في تجارة الترانزيت.
وأزيدكم من الشعر بيتا، أن مصر التي لا تزيد مساحة الأراضي المزروعة فيها عن 4% من إجمالي الأراضي المزروعة في الوطن العربي، بلغت قيمة ناتجها الزراعي عام 2022 وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد نحو 52,2 مليار دولار تعادل 31,6% من إجمالي الناتج العربي من قطاع الزراعة والصيد والغابات، لأنها تملك في هذا المجال قطاعا أكثر تقدما من غالبية القطاعات المناظرة في الدول العربية، ويعتمد في غالبيته الساحقة على الميكنة والري بنظمه المختلفة وليس على المطر.
ومن نماذج التقدم في قطاع الزراعة والصيد والغابات، أن مصر تتفوق بشكل كاسح على كل الدول العربية والإفريقية وتشغل مركزا عالميا متقدما في الاستزراع السمكي في البحار والمياه العذبة. ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في تقريرها عن حالة الموارد السمكية وتربية الأحياء المائية عام 2024، تمكنت مصر من زيادة إنتاجها من مزارع الأسماك من لا شيء تقريبا في سبعينيات القرن الماضي، إلى نحو 340 ألف طن عام 2000، بما يعادل 85% من إجمالي إنتاج القارة الإفريقية من الاستزراع السمكي في البحار والمياه الداخلية. وارتفع الإنتاج من تلك المزارع عام 2022 إلى نحو 1,6 مليون طن تعادل نحو 89% من إجمالي الإنتاج العربي من الاستزراع السمكي، ونحو 67% من إجمالي إنتاج القارة الإفريقية من الاستزراع السمكي.
وبالنسبة لإجمالي الإنتاج السمكي من المصايد الطبيعية والاستزراع السمكي معا، تقدمت مصر للمركز الأول عربيا بأكثر من 2 مليون طن متفوقة على المغرب الذي أنتج 1,6 مليون طن، علما بأن المغرب كان يشغل المرتبة الأولى تاريخيا نظرا لغنى منطقته البحرية الاقتصادية بالأسماك حيث تلتقي فيها التيارات البحرية الدافئة والباردة بما يوفر الغذاء للأسماك.
وعلى سبيل المثال أيضا، بلغت المساحة المزروعة بالحبوب في الوطن العربي عام 2019 نحو 30,6 مليون هكتار أنتجت 57,8 مليون طن، بمعدل إنتاجية بلغ 1,9 طن للهكتار في المتوسط. وبلغ نصيب مصر من المساحة المزروعة بالحبوب نحو 3,4 مليون هكتار تعادل 11,2% من الإجمالي العربي. ومن هذه المساحة أنتجت مصر نحو 24,1 مليون طن من الحبوب تعادل 41,7% من إجمالي الإنتاج العربي من الحبوب لأن إنتاجية الهكتار لديها بلغت نحو 7 أطنان، أي 3,7 مرة قدر متوسط الإنتاجية في الوطن العربي. وبلغ نصيب السعودية من المساحة المزروعة بالحبوب نحو 245 ألف هكتار، تعادل نحو 0,8 من الإجمالي العربي، ومن هذه المساحة أنتجت 1,35 مليون طن من الحبوب تعادل 2,3% من إجمالي الإنتاج العربي لأن إنتاجية الهكتار لديها بلغت 5,5 طن. فمن هو الأكثر تطورا برأيكم؟
ويشير الكتاب السنوي للإحصاءات الزراعية الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية عام 2022 إلى أن الوطن العربي يملك نحو 53,1 مليون رأس من الأبقار، منها 32 مليون في السودان وحده، ونحو 4,4 مليون في الصومال، ونحو 3,2 مليون في المغرب، ونحو 2,8 مليون في مصر، ونحو 1,9 مليون رأس في موريتانيا. ويملك الوطن العربي نحو 1,512 مليون رأس من الجاموس تختص بها مصر والعراق وحدهما تقريبا، حيث تملك مصر نحو 1,263 مليون رأس، ويملك العراق نحو 242 ألف رأس.
ومن هذه الثروة الحيوانية من الأبقار والجاموس، أنتج الوطن العربي نحو 1,78 مليون طن من لحومها، منها 480 ألف طن في مصر، ونحو 389 ألف طن في السودان، ونحو 252 ألف طن في المغرب، ونحو 146 ألف طن في الجزائر. ولو قارنا هذا الإنتاج بعدد رؤوس الأبقار والجاموس التي تملكها كل دولة من هذه الدول، سنجد أن إنتاجية الأبقار والجاموس في مصر من اللحوم، تتفوق بشكل كبير على نظيرتها في باقي الدول العربية بسبب نظام التسمين والرعاية البيطرية وسلالات الماشية، فمن هو الأكثر مواكبة للتطور؟.
وبالنسبة للدجاج يملك الوطن العربي نحو 1284 مليون طائر، منها 218 مليون في المغرب، ونحو 208 مليون في السعودية، ونحو 177 مليون في مصر، ونحو 137 مليون في الجزائر، ونحو 99 مليون في تونس. وأنتجت تلك الثروة الداجنية العربية نحو 5,57 مليون طن من لحوم الدجاج منها 2,3 مليون طن في مصر وحدها، ونحو 930 ألف طن في السعودية، ونحو 695 ألف طن في المغرب، وهو ما يعني أن تقدم مصر في تربيتها ورعايتها بيطريا يؤدي إلى زيادة إنتاجيتها من اللحوم.
وأنتج الوطن العربي في عام 2021 نحو 27,7 مليون طن من اللبن، منها 5,4 مليون طن في مصر، ونحو 4,6 مليون طن في السودان، ونحو 3,3 مليون طن في الجزائر، ونحو 2,6 مليون طن في السعودية، ونحو 2,5 مليون طن في المغرب. كما أنتج الوطن العربي في العام المذكور نحو 2,6 مليون طن من البيض، منها 770 ألف طن في مصر، ونحو 415 ألف طن في المغرب، ونحو 359 ألف طن في السعودية، ونحو 305 ألف طن في الجزائر، ونحو 104 ألف طن في سورية.
إن مصر التي تحدثتم عنها باستخفاف لا يستند لأي علم ولا مبرر له ولا نتوقعه من رئيس دولة شقيقة، هي التي فتحت باب التطور والحداثة والتقدم في المنطقة من عهد محمد علي الذي كان يطمح لبناء دولة كبرى في وادي النيل وبلاد الشام والحجاز، وكان سابقا في البعوث العلمية والتحديث الصناعي والزراعي، على اليابان وكوريا الجنوبية والصين وشرق وجنوب أوروبا والمنطقة العربية كلها بالطبع. وبنى صناعات مدنية وعسكرية كبرى لتعتمد مصر على نفسها في تسليح الجيش فبنى ترسانة القلعة وبها العديد من المصانع، وأهمها مصنع صب المدافع من عيار أربعة وثمانية أرطال، ومدافع الهاون ذات الثماني بوصات، ومدافع قطرها 24 بوصة. وبها أيضا مصنع للبنادق، وآخر لصناعة كل مستلزمات سلاح الفرسان، ومصنع ألواح النحاس المستخدم في دروع السفن. وخلافا لترسانة القلعة أنشا محمد علي عام 1831 مصنعا للبنادق في الحوض المرصود. كما طور ترسانة بولاق التي توسعت في صناعة السفن عام 1810. وكانت تلك السفن تنقل كأجزاء على ظهور الإبل إلى السويس، ويتم تركيبها هناك وإنزالها في البحر الأحمر.
كما أنشأ الترسانة البحرية في الإسكندرية التي اكتملت عام 1831، وبها 5 أحواض جافة لبناء السفن، وورش لصناعة كل مستلزماتها. وقد صنع في تلك الترسانة 8 بوارج كبرى أسميت “مصر”، و “عكا”، و”حمص”، و”المنصورة”، و”المحلة الكبرى”، و”الإسكندرية”، و”حلب”، و”دمشق”، فضلا عن زوارق الكورفيت وسفن لمدافع الهاون، وأخرى لنقل أخشاب السواري. ولعلك ترى كم هي عزيزة سورية على مصر وعلى من أراد بناء دولة كبرى في المشرق العربي، حيث أطلق أسماء مدنها الكبرى (دمشق وحمص وحلب) على البوارج المصرية.
وتمكن محمد علي من ضم الحجاز وبلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين) بجيش مصري أعاد أمجاد الجيوش المصرية القديمة وتاريخها البطولي. وتَمكٌن الجيش المصري عام 1832 من سحق الجيش العثماني في عدد من المعارك أهمها معارك حمص، وبيلان، وقونيه (ديسمبر 1832) التي تم خلالها أسر رشيد باشا قائد الجيش التركي مع 6000 من قواده وضباطه وجنوده مع قتل نحو 3 آلاف جندي وضابط تركي، مقابل استشهاد نحو 262 عسكري مصري وجرح 530 منهم. وأعقب تلك المعركة صلح كوتاهية في 8 أبريل عام 1833 الذي منح مصر بقيادة محمد علي حكم بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين) وجزيرة كريت والحجاز وإقليم أضنه التركي مقابل انسحاب الجيش المصري من باقي بلاد الأناضول التركية. وقد نقضت الدولة العثمانية ذلك الصلح فيما بعد، مما أدى لنشوب الحرب الثانية بين مصر وتركيا والتي كانت ذروتها هي معركة نصيبين عام 1839 التي سجلت مصر فيها نصرًا ساحقًا على تركيا التي خسرت 4 آلاف قتيل وجريح، ووقع 15 ألف من ضباطها وجنودها في الأسر، وغنمت مصر 74 مدفعا ثقيلا و 20 ألف بندقية، وخزينة بها ما يعادل 6 ملايين فرنك، مقابل 4 آلاف شهيد وجريح مصري. كما استسلم الأسطول التركي بكامل هيئته في مشهد مهيب في الإسكندرية. وتضمن ذلك الأسطول المستسلم 9 بوارج كبيرة، و11 فرقاطة، و 5 زوارق كورفيت و21107 قائد وضابط وجندي. وتلك الانتصارات المصرية أذهلت القوى الأوروبية الرئيسية، واستنفرت العداء من كل القوى الكبرى الراغبة في اقتسام ممتلكات الدولة العثمانية المتهالكة، فتحالفت بريطانيا مع كل الفرقاء الأوروبيين (روسيا والنمسا وألمانيا إضافة إلى تركيا، مع تلاعب فرنسا بمواقفها) لمواجهة مصر سياسيًا وعسكريًا وبخاصة من قبل جيوش بريطانيا والنمسا، ووصل الأمر إلى توجه أساطيل تلك الدول لمحاصرة الإسكندرية توطئة لغزو مصر التي كان جيشها في معظمه يحتل تركيا وموزعا في بلاد الشام والحجاز، مما اضطر محمد علي لقبول معاهدة لندن التي قزمت طموحاته وأنهت حلم توحيد المشرق العربي، وتلاها تطبيق الاتفاق العثماني-الإنجليزي القاضي بفتح أسواق تركيا والدول التابعة لها أمام البضائع الإنجليزية بسقف جمركي 3% مما أدى لتخريب الصناعات المصرية الناشئة. لكن تجربته في محاولة إنجاز الاستقلال والوحدة والتطور العلمي والإبداعي والصناعي، تبقى رغم أي ملاحظات عليها، نموذجا فريدا وملهما لكل من يبتغون بناء الاستقلال الوطني على قواعد العلم والإبداع والتنمية الاقتصادية المستقلة.
ورغم الاحتلال الاستدماري البريطاني عام 1882، عاودت مصر النهوض وقدمت تجربة ملهمة لأحد أهم آباء الصناعة في مصر والعالم هو محمد طلعت حرب باشا.
أما البناء الأعظم في التاريخ الحديث لمصر فهو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بكل الصناعات التي أسسها، وبمجانية الرعاية الصحية والتعليمية، وبنظم التشغيل والأجور والضرائب التي وضعها مستهدفا تحقيق العدالة الاجتماعية النسبية، وبالثورة الزراعية، وببناء السد العالي وهو أعظم مشروع بنية أساسية في العالم في القرن العشرين وفقا لاختيار عالمي، باعتباره مشروعا غير مصير شعب بأكمله، وبالثورة الصناعية التي شملت كل القطاعات تقريبا، والتي وضعت مصر في مقدمة الدول النامية الناهضة عند انتهاء الخطة الخمسية الأولى وقبل العدوان الصهيوأمريكي على مصر وسورية عام 1967.
عندما يدور الحديث عن مصر لابد أن يحضر الإجلال والاحترام للحاضر والتاريخ، واتركوا للباحثين والإعلاميين من مصر وسورية، عمليات التحليل والتقييم والانتقاد، وهو مقبول عندما يكون موضوعيا، وحتى عندما تحكمه الأهواء لدينا أو لديكم فإن علاجه هو الرد الموضوعي عليه. ومن هذا النموذج ما صرح به أحد الصحفيين لديكم بأن النظام السياسي في مصر مرعوب من نجاح سورية، وهو تصريح غريب ومكرس لزرع الشقاق، فأي تقدم لسورية أيا كان من يحكمها، هو رصيد للقوة العربية، وأي تطور لمصر هو رصيد للقوة والعزة العربية. والدولة المصرية لا تتدخل في شكل وطبيعة الحكم في سورية فهذا شأن أبناء سورية، ويهمنا فقط ألا تكون منصة لمصريين متطرفين ومحكومين قضائيا في مصر أو لأي أعمال عدائية ضد مصر.
وبصدق نأمل أن تحققوا النجاح على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن هذا النجاح لن يحققه التطور اللافت الذي يحمد لكم في علاقاتكم الدولية مع الغرب والذي نتج عنه رفع غالبية العقوبات عن سورية، وكذلك مع روسيا والصين، لأن الشرط الأساسي للنجاح، هو بناء الاستقرار الاجتماعي-السياسي الداخلي القائم على التراضي لاستعادة الوحدة الوطنية من خلال دولة عادلة لكل مواطنيها على قدم المساواة بدون تمييز عرقي أو طائفي أو مذهبي أو نوعي أو جغرافي، وهو هدف لا يتسق مع إعلان دستوري طائفي واستبدادي، ركز كل السلطات في أيديكم، علما بأن المستبد لا يُخلق كذلك، بل تجعله سلطاته المطلقة مستبدا. والنجاح المنشود لا يتسق مع هيمنة ميلشيات مذهبية تاريخها هو العنف، على مؤسسات الجيش والأمن، بالاشتراك مع جيش من الميليشيات الأجنبية الأعنف والأكثر تشددا، والأفضل هو بناء جيش وطني من كل أبناء الوطن على قاعدة الخدمة الوطنية العامة والإجبارية، وبالمناسبة كان إلغاء الاحتفال بانتصار وطنكم يوم السادس من أكتوبر خطيئة كبرى فهو انتصار عظيم لرجال سورية وليس لحافظ الأسد، علما بأن الانكسار الذي حدث للجبهة بعد اليومين الأولين، كان بسبب توجيه كل القوات الاحتياطية الصهيونية إلى الجبهة السورية لتسويتها ثم الانتقال للجبهة المصرية بعد ذلك، بحيث أصبح تعداد قوات الكيان المجرم أكثر من ضعف عدد القوات السورية مما مكنها من كسر الجبهة لولا الإسناد العظيم من القوات العراقية بأوامر مباشرة من صدام حسين الذي كان نائبا للرئيس العراقي آنذاك. كما أن بناء الاستقرار السياسي-الاجتماعي على قاعدة التراضي، لا يتسق مع استدعاء القبائل لمواجهة أبناء الطائفة الدرزية بما يقوض دور الدولة ويشعل فتيل صراعات أهلية تمنع بناء أي وحدة وطنية، وتؤدي إلى تفكيك المجتمع، وتدفع البعض لارتكاب جريمة الاحتماء بالكيان المجرم. كما أن بناء الاستقرار القائم على التراضي لا يتسق مع المساواة بين الضحايا والقتلة في المحاكمات المتأخرة بشأن أحداث الساحل التي سُحقت فيها الطائفة العلوية، والتي ابتليت بعد ذلك بحرائق غريبة وغير معتادة دمرت بيئتها ومواطن الكثير من أبنائها. كما أنه لا يتسق مع التنمر على المنطقة الكردية لحساب تركيا بما يدفعها للالتصاق بالحماية الغربية على حساب وحدة سورية، بدلا من استيعابها كليا ومنحها الحكم الذاتي وإنهاء وجود القوات الأجنبية فيها إلا باتفاقات مع الدولة وتحت إشرافها. وبالتالي فإن نجاحكم الذي سنزهو به عندما يتحقق، يحتاج إلى معالجة هذه القضايا وانعكاساتها على الدستور. وإلى أن يحدث ذلك أعتقد أن مصر الكبيرة تستحق اعتذارا عن المقارنة الظالمة وغير العلمية التي صرحت بها.
أعلم أن الرسالة طويلة لكنها ضرورية ليعلم الجميع من هي مصر، وأيضا لأبرئ ذمتي في مناخ عدائي وملتبس بين أشقاء هم الأقرب لبعضهما بين كل شعوب ودول المنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى