صدور كتاب ” روسيا في الاقتصاد العالمي ومأزق السنوات القادمة” للدكتور هاني شادي

صدر في القاهرة عن دار “العين” للنشر كتاب ” روسيا في الاقتصاد العالمي ومأزق السنوات القادمة” للدكتور هاني شادي. ويُسلط الكتاب الضوء على مشكلة تاريخية تعاني منها التجارة الخارجية الروسية بشكل خاص والاقتصاد الروسي بشكل عام. وهي مشكلة الاعتماد الكبير نسبيًا على تصدير الخامات والمواد الأولية وخاصة النفط والغاز والخامات الأخرى واستيراد السلع الاستثمارية والتكنولوجيات من الخارج خاصة من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك من الصين مؤخرًا. ويُطلق مؤلف الكتاب على هذه المشكلة “متلازمة تصدير الخامات والمواد الأولية واستيراد السلع الاستثمارية والتكنولوجيات”. وهذه المتلازمة تشكلت تاريخيًا منذ العصر القيصري مرورًا بالاتحاد السوفيتي ووصولًا إلى روسيا المعاصرة، كما يتضح لاحقًا من صفحات الكتاب المكونة من 286 صفحة. وهذه المتلازمة، برأينا، تعكس مأزق السنوات القادمة في روسيا في ظل العقوبات الغربية القاسية، التي فُرضت عليها نتيجة للأحداث في أوكرانيا. ويرى المؤلف أن الأمر لا يتعلق هنا بمطالبة روسيا التخلي عن تصدير النفط والغاز، وإنما يتعلق بضرورة استخدام الإيرادات الضخمة من هذا التصدير لتنويع الاقتصاد الروسي وتحديث الصناعة التحويلية لتكون قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية. فخلال العشرين سنة الماضية حصلت روسيا على إيرادات من تصدير موارد الطاقة والوقود تُقدر بحوالي 5 تريليونات دولار، ولكنها لم تستخدمها بالشكل اللازم لتحديث صناعتها التحويلية وخاصة الفروع المُنتجة للسلع الاستثمارية. ويرى الكتاب أن حصيلة التغيُرات في مجال التكنولوجيا خلال السنوات الأخيرة من الذكاء الاصطناعي والروبوتات وثورة التكنولوجيا الحيوية والرقمية وغيرها ستخلق مخاطر جديدة وفرصًا جديدة أيضًا أمام روسيا وغيرها من الدول. وسيتمكن بعض اللاعبين على الساحة الدولية الاستفادة من هذا والانطلاق على طريق إنشاء مراكز قوة جديدة ولن تتمكن دول أخرى من ذلك. وتحتاج روسيا في الغالب إلى التطور وإعادة بناء نفسها في ظل هذه التحولات المتسارعة. ولكن ظروف تطور الاقتصاد الروسي، التي تجسدت في الفترة الأخيرة، على خلفية العقوبات والقيود على الاستثمار والتعاون التكنولوجي والخصومات على بيع النفط والعبء الاقتصادي الكبير بسبب الصراعات الجيوسياسية من غير المرجح أن تتغير نوعيًا في الأعوام القليلة القادمة بالرغم من محاولات التكيف مع الظروف الجديدة. وتكمن المشكلة أمام الاقتصاد الروسي والتجارة الخارجية الروسية في احتمال تعقيد هذه الظروف أكثر فأكثر مستقبلًا. وحتى لو تركنا جانبًا المخاطر المرتبطة مباشرة بالأحداث في أوكرانيا وحروب العقوبات المتبادلة، فإن عددًا من القيود على تنمية الاقتصاد الروسي ككل سيزداد في المستقبل أيضًا. ولذلك يصبح إجراء تغيُرات جوهرية في هيكل الاقتصاد الروسي والتجارة الخارجية أمرًا لا مفر منه. وفي غالب الظن سيبقى مستوى المواجهة الجيوسياسية مرتفعًا، مدفوعًا بالتوتر المتزايد بين مراكز القوة القديمة والجديدة، وسوف يرتفع كذلك مستوى المنافسة في العالم. وهناك خطر أن تحتل الصين والدول الصناعية الصاعدة الأخرى مواقع روسيا في الأسواق العالمية. وسيكون من الصعب على الاتحاد الروسي مواصلة العمل وفق نموذجه المعتاد المتمحور على تصدير موارد الطاقة والمواد الخام والتجميع الطرفي للمنتجات الغربية واستيراد التقنيات ووسائل الإنتاج من البلدان الغربية المتقدمة.
ويشير المؤلف في كتابه إلى أنه بسبب العقوبات جرى إحلال المنتجات الصينية محل التقنيات ووسائل الإنتاج من البلدان الغربية المتقدمة، موضحًا أن هذا النموذج لن يحل بالطبع مهمة تنويع الاقتصاد الروسي وتحديث الصناعة التحويلية وفروع الاقتصاد الأخرى، ولن يُخرج روسيا من متلازمتها التاريخية. ففي ظل الصراع التنافسي بين مراكز القوة القائمة والناشئة، والذي يعتمد أساسًا على التطور التكنولوجي السريع، نجد أنفسنا أمام إعادة هيكلة تكنولوجية للبلدان المتقدمة والصين وفق أحدث الحلول الرقمية. وسيكون أمام روسيا الكثير من الجهد والعمل في تحديث شامل للصناعات التقليدية ذات التقنية المتوسطة وتعزيز عملية الإنتاج وتحسين العمليات اللوجستية وتطوير قطاع الخدمات على أساس الرقمنة. وفي غالب الظن ستأتي البضائع إلى الأسواق العالمية من البلدان، التي سوف تشهد تحديثًا مكثفًا. وهذا قد يؤدي إلى انكماش ما يسمى بالأسواق “المتساهلة” أمام البضائع والخدمات الروسية، مثل أسواق جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والدول النامية في أفريقيا وآسيا. وهذه العملية قد تعني تدهورًا كبيرًا في شروط المنافسة للمنتجات الروسية. فمن خلال تشكيل معايير جديدة رسمية وفعلية على حد سواء في الأسواق المتقدمة وبسبب المنافسة السعرية المتزايدة يُوجد احتمال تقلص مكانة روسيا في تلك الأسواق. كما يبرز اليوم أمام روسيا عامل جديد وهو العامل الأوكراني. ففي حال ظلت أوكرانيا بعد انتهاء الأعمال القتالية في منطقة النفوذ السياسي والاقتصادي للدول الغربية، فلا يمكن استبعاد أن تنقل الولايات المتحدة والدول الأوروبية قسمًا من التكنولوجيا ورأس المال من الصين وغيرها إلى الأراضي الأوكرانية. وفي هذه الحالة سيتعين على روسيا مواجهة مشروع اجتماعي وسياسي بديل لنموذجها الاقتصادي في المنطقة. وفي ضوء هذا السيناريو المحتمل ستكون روسيا في حاجة ماسة لتحديث الاقتصاد وتطوير نموذج جديد للرأسمالية على خلفية الانتقال الحالي في العالم إلى نظام تكنولوجي جديد واقتصاد المعرفة.
إن إجراء تغيرات هيكلية جادة في الاقتصاد وتقليل اعتماده بشكل نسبي على العوامل الخارجية وفي المقام الأول التقلبات في أسعار الطاقة العالمية قد أُثير دائمًا من قبل القيادة الروسية على مدى سنوات عديدة. ويقر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحجم هذه المشكلة ويطالب الحكومة بتقليل الطابع الخامي للاقتصاد الروسي واتباع سياسة إحلال الواردات. ويقول بوتين قبل سنوات في رسالته إلى البرلمان الروسي بمجلسيه (مجلس الدوما ومجلس الاتحاد):” نحن نعيش في الغالب في ظل اقتصاد ريعي وليس في اقتصاد مُنتج”. ويضيف:” أود أن ألفت انتباه جميع مواطنينا، الذين يساورهم القلق بشأن اعتماد اقتصادنا المفرط على الظروف الخارجية وفي المقام الأول ارتفاع أسعار النفط والغاز والفحم عالميًا، نحن بالفعل نعتمد إلى حد كبير جدًا على هذه الظروف الخارجية، لذلك فإن المهمة الأساسية لنا هي تنويع الاقتصاد وتحديثه بالاعتماد على أحدث التقنيات”. ويؤكد بوتين أيضًا أن الاقتصاد الروسي مازال ضعيفًا للغاية ويعتمد على الوضع العالمي لأسعار موارد الطاقة والوقود. وبعد الأحداث في أوكرانيا وفرض العقوبات الغربية على روسيا، يدعو الرئيس الروسي في عام 2023 إلى العمل على التخلي عن” لعنة النفط والغاز” وتقليل الاعتماد على تصدير الخامات والمواد الأولية. ومع ذلك تزايد الاعتماد على تصدير موارد الطاقة والوقود والخامات الأخرى واستيراد السلع الاستثمارية والتكنولوجيا من الخارج، كما يتضح من البيانات والإحصاءات الغزيرة في هذا الكتاب. واللافت أن فلاديسلاف سوركوف، النائب السابق لمدير ديوان الرئاسة الروسية والمقرب من الرئيس الروسي، يقول في وصفه للاقتصاد الروسي:” إن ما نسميه الاقتصاد اليوم في روسيا ليس اقتصادًا بالمعنى الحديث للكلمة.. لدينا موارد طاقة فقط تتدفق عبر الأنابيب”. ويؤكد مؤلف الكتاب أن المشكلة الملحة لا تكمن في التخلي تمامًا عن تصدير موارد الطاقة والوقود، بل تكمن في استخدام العوائد من تصديرها لتطوير صناعة تحويلية حديثة قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية، الأمر الذي لم يحدث بالدرجة المطلوبة خلال العشرين سنة الأخيرة على الأقل.
ونرى عبر صفحات الكتاب أنه مع صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى سُدة الحكم في روسيا منذ أكثر من عشرين عامًا تعززت متلازمة تصدير موارد الطاقة والخامات واستيراد السلع الاستثمارية والتكنولوجيات بالرغم من محاولات الفكاك منها أحيانًا. وفي ظل العقوبات المتتالية على الاقتصاد الروسي تعالت أصوات المسؤولين الروس بالحديث عن سياسة إحلال الواردات للفكاك من هذه المتلازمة. فهذه العقوبات في مجملها أظهرت المشاكل الكثيرة للاقتصاد والتجارة الخارجية في روسيا، وخاصة الاعتماد على تصدير الخامات والمواد الأولية (في مقدمتها النفط والغاز) واستيراد السلع الاستثمارية من الدول الغربية، التي تُوصف في روسيا على المستوى الرسمي بالدول “غير الصديقة”. وهذا الاعتماد كشف عمليًا “عورات” الاقتصاد الروسي، التي تحدث عنها الكثير من الاقتصاديين الروس وغير الروس على مدار السنوات الماضية.¬
ويضم هذا الكتاب خمسة فصول بجانب المقدمة والخاتمة. ويسلط الفصل الأول الضوء على نموذج الرأسمالية الروسية المعاصرة وطبيعتها وعلاقتها بالمتلازمة التاريخية في روسيا المشار إليها أعلاه. ويتطرق أيضًا إلى الجدل واسع النطاق حول الطابع الريعي للاقتصاد الروسي، والذي يدور في روسيا منذ سنوات. ويتناول الفصل الثاني من الكتاب البعد التاريخي لمتلازمة الاعتماد على تصدير الخامات واستيراد السلع الإنتاجية والتقنيات عبر التطرق إلى تطور التخصص الاقتصادي الخارجي لروسيا وموقعها في تقسيم العمل الدولي والتجارة الدولية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. والفصل الثالث يتعلق بالتجارة الخارجية الروسية في المقارنات الدولية من خلال رسم صورة عامة لبصمة روسيا في الاقتصاد العالمي وموقع تجارتها الخارجية في المقارنات الدولية. ويرصد الفصل الرابع العقوبات الغربية على روسيا في عام 2022 ومحاولات الفكاك منها. وهذا الفصل يتناول العقوبات ودرجة اعتماد روسيا على الواردات من الخارج وتأثير هذه العقوبات على قطاعات الاقتصاد الروسي ومحاولات الفكاك وسياسة إحلال الواردات والبحث عن أسواق بديلة. أما الفصل الخامس والأخير، فيتطرق إلى تعويل روسيا على الصين للتغلب على العقوبات من خلال رصد تطور التجارة الخارجية بين البلدين في السنوات الأخيرة. ويتناول هذا الفصل أيضًا عملية إعادة توجيه الصادرات الروسية من النفط والغاز إلى الشرق. كما يحاول استشراف مستقبل الاقتصاد والتجارة الخارجية في روسيا خلال السنوات المقبلة. (هذه المرة في معرض الكويت الدولي للكتاب) .







