كتاب وشعراء

كان يمشي…..بقلم أماني الوزير

كان يمشي كأنّ الجسدَ طريقٌ لا يعرفه،
وكأنّ الخطواتِ تُفلت منه لتلحق بما لم يستطع أن يقولَه منذ أعوامٍ تعبت فيه الشهوةُ من الانتظار.
لم يكن مُضيئًا… بل كان يجرُّ وراءه ظلًّا منتصبًا،
ظلًّا يعرف أنني أراه أكثر منه.
لمستُ صمته فرأيتُ فيه لُغتين:
لغةٌ تنحني كأنّها تُصلّي تحت جلده،
وأخرى تعضُّ الهواءَ كي لا تعترف أنّها تشتاق.
كلّ ما فيه كان يتهيّأ للبوح،
لكنّ التهيّؤ عنده أعمق من الوصول، وأوحش من الامتلاء.
عينيه؟
نافذتان تهجُمان على قلبي كما تهجم النار على الحطب الرطب:
تُوقظه… وتُعذّبه… وتُبقيه واقفًا لأن الاحتراقَ هو الطريقة الوحيدة ليتنفّس.
إذا جلس قربي، شعرتُ بأنّ الحروفَ تنسلّ من جلدي لا من لساني،
وأنّ أنوثتي تستدير لتراه،
وتسألني:
هل أنتِ قادرةٌ على حمل هذا الطيف الذي يختلط فيه الوجدُ بالجوع،
والجوعُ بالرغبة،
والرغبةُ بالعبادة؟
كان يُشبه لحظةً بين السجود والقبلة،
بين تنهيدةٍ تتذكّر الله،
وصوتٍ يتذكّر لذّةً فُقدتْ في صدر الليل.
لم يكن صوفيًّا ولا عابثًا،
بل كان يحاول أن يجدّف في داخله نحو جزيرةٍ لم يولد فيها أحد غيره.
عندما يقترب،
أشعر بأنّ الهواء يميل،
وأنّ اسمي يلتصق بجلده لحظةً قبل أن يعود إليّ،
وأنّ شيئًا يتفتّح بين ضلوعي كأنّني شجرةٌ تنُطِق:
انهضي.
حين يبتعد،
يعود الليلُ إلى هيئته الأولى،
يتركني أفتّش عن أثرٍ من دفئه على أصابعي،
عن بسمةٍ لم يُتِمّها،
عن كلمةٍ كادت تتعرّى… ثم استعفّت خوفًا من أثرها.
لم يكن يتكلّم…
كان يُسمِعني اضطرابَه.
كان إذا رفع حاجبيه قليلًا،
تبدّل في داخلي توازنُ العالم،
كأنّني شاهِدةٌ على خلقٍ جديدٍ يهربُ من شفتيه.
قلتُ له ذات ليلةٍ لم أكن أملِك فيها شيئًا إلا جسدي وروحي:
اقترب.
فلم يقترب؛
بل انكشف.
وانكشافُه كان أعمق من اللمس،
وأعنف من العناق،
وأصدق من اعترافٍ طويل.
هو ذلك النوع الذي تُغريه الروح حين تضعف،
وتُقصيه القوة حين تشتدّ؛
النوع الذي يفتح بابًا في النفس،
ولا يعرف كيف يغلقه،
فيلجأ إلى الهرب،
ظنًّا منه أنّ البُعدَ يُطفئ ما في صدره.
كأنه لا يعلم أنّ البُعد عندي… جمرٌ لا رماد.
لم يَسكنني.
بل جعلني أرتجُّ كما ترتجّ الأرضُ حين يُمسُّ آخر الماء تحت التراب،
وتعرف أنّ الينبوعَ قريب…
وأنّ الوصولَ سيكسِر شيئًا،
ويُصلِح شيئًا،
ويُبقي أشياءَ كثيرة معلّقة في الهواء…
تمامًا كما أراد الله للقلوب أن تكون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى