قراءة تحليلية ونقدية موسّعة لملحمة «كوردستان نشيد الجبل الأخير»للشاعر الكردي السوري زكريا شيخ أحمد بقلم محمد وليد يوسف

الجزء الأول
أولاً: قراءة تحليلية للنص
1. البناء العام للنص
النص مؤلّف من خمس مقاطع وكل مقطع يشكّل حركة داخل نشيد ملحمي. هذا التقسيم ليس شكلياً، بل يحمل وظيفة سردية وشعرية:
الميلاد
الحكاية/التضحية
الصعود/الوعي الجماعي
الانبعاث/القيامة
التعريف/الهوية
هذا يضع النص ضمن بنية القصيدة الملحمية الحديثة: نصّ يتجاوز الغنائية الذاتية إلى سرد تاريخ ـ هوية – شعب – مقاومة – زمن.
يمتلك العمل تدرجاً درامياً يبدأ بتأسيس الأرض، ثم الألم، ثم المقاومة، ثم الانبعاث، ثم الخلاص.
وهذا التدرج يعكس الوعي الجمعي للكرد، ويستحضر الزمن الدائري الذي يولد فيه الشعب من جراحه.
ثانياً: تحليل المقاطع الخمسة
المقطع الأول: ميلاد الجبل
هنا تُؤسَّس الميثولوجيا:
الجبل ليس تضاريس، بل كتفٌ تسند إليه الأرض.
كوردستان ليست اسماً سياسياً بل سراً تحفظه الريح والنسور.
الدلالة:
الجبل رمز للثبات والقداسة.
كوردستان ليست جغرافيا، بل ذاكرة/روح/أصل، وهذا يجعل حضورها ميتافيزيقياً.
المقطع الثاني: النهر الذي عبر الدماء
ننتقل إلى لحظة تاريخية عنيفة:
النهر هنا ليس ماءً بل ممراً للموت والبعث.
غناء النساء، دموع الحجارة، لغة الجبال… كلها رموز لقيام السردية القومية من الألم.
الدلالة:
المرأة – الجبل – النهر → ثلاثية الخلود الكردي.
الحرية تُكتب على العظام قبل الكتب:
خطاب يربط الهوية بالتضحية.
المقطع الثالث: صعود الأمة
هنا يتحول النص من الألم إلى الوعي:
طفل يحمل حرفاً ممنوعاً
شيخ يحمل خريطةً ممنوعة
خوف الدول من صوت الشعب
الدلالة:
اللغة تصبح سلاحاً.
الذاكرة تصبح خريطة.
كوردستان تُصنع من الأصوات، لا من الخرائط الرسمية.
المقطع الرابع: انبعاث كوردستان
هذا أقوى مقاطع النص:
الشهداء ينهضون
الظل يخاطب صاحبه: “قُم…”
شظية الضوء التي تحملها فتاة صغيرة
الدلالة:
القيامة ليست دينية بل قومية.
الشعب ينهض “لا ليحتمي… بل ليكبر”.
وهذا يقدّم رؤية نادرة لكوردستان:
ليست رمزاً للبكاء، بل لليقظة والتصاعد.
المقطع الخامس: كوردستان ليست سطراً في كتاب
هنا الخلاصة:
كوردستان جسدٌ يقاوم، يمشي ببطء لكنه يصل.
الخرائط تخذل الشعب، لكن الجبال لا تفعل.
الدلالة:
جوهر النص:
كوردستان كائن حيّ، لا يمكن اختزاله في حدود سياسية.
ثالثاً: اللغة الشعرية
1. لغة ملحمية
الصور واسعة، ضخمة، جغرافية، مقدّسة:
الجبل – النهر – الجروح – النسور – الجغرافيا – الضوء.
اللغة تقترب من لغة الأساطير وليس من لغة الغزل أو الذات.
2. لغة رمزية
كل مفردة في النص ليست مجرد مفردة:
الجبل = الهوية
النهر = التاريخ
المرأة = الذاكرة الحافظة
الطفل = المستقبل
القتلى = الأحياء في النص
3. لغة نقدية مقاومة
هناك احتجاج واضح:
“تخاف الدول أن تراها”
“لم يُمنحوا حقّ الموت بسلام”
“لو خذلتهم الخرائط”
هذه لغة شعر حرية، لا شعر عاطفة مجردة.
رابعاً: النهج الشعري الذي يتّبعه الشاعر زكريا شيخ أحمد؟
أسلوبه لا يستند إلى شاعر واحد، بل يتقاطع مع مدراس متعددة:
1. النهج الملحمي – قربٌ من محمود درويش (مرحلة الرسائل الوطنية)
يتشابه معه في:
بناء الهوية على الأسطورة
القدرة على جمع التاريخ بالأسطورة بالوجدان
استعمال المفردات الكبيرة: الجبل، الأرض، النشيد، الدم، الولادة
الحس القومي الإنساني غير الشوفيني
لكن زكريا أكثر تجريداً وأقل مباشرة من درويش.
2. النهج الرمزي – صدى أدونيس
يتقارب معه في:
تحويل الجغرافيا إلى رمز
لغة كونية تتجاوز السياسية اليومية
إدخال الأسطورة كطبقة ضمن النص
لكن زكريا أقل تعقيداً من أدونيس وأكثر التصاقاً بالأرض والناس.
3. النهج الملحمي الكردي – أقرب إلى جكرخوين من حيث الروح
ليس في الأسلوب المباشر، بل في:
روح المقاومة
تقديس الجبل
الاحتفاء بجذور الشعب
تحويل الألم إلى جمال ملحمي
لكن لغة زكريا أكثر حداثية وأقل شعبوية.
4. روح Claudio Magris أو Seamus Heaney (الشعر الأوروبي القومي)
من حيث:
ربط الأرض بذاكرة الضحايا
تحويل التضاريس إلى سجلّ بشري
كتابة التاريخ عبر الشعر
هذه سمة شعراء “الهويات الجغرافية”.
خامساً: الخلاصة النهائية
زكريا شيخ أحمد في هذا النص يقدّم:
ملحمة شعرية وطنية حداثية
لا تمجّد القومية على حساب الإنسانية، بل تجعلها حكاية مقاومة
يصنع كوردستان كائناً حيّاً يولد، يجرح، ينهض
يجمع بين أسطورة الجبل ومأساة الشعب
بين الفلسفة المصغّرة واللغة الحسية الكبيرة
ونجاح النص أنه يوازن بين:
الرمزية
الأسطورة
اللغة العاطفية
الوعي السياسي
دون أن يقع في المباشرة أو الخطابة.
الملحمة
كوردستان نشيد الجبل الأخير
(ملحمة شعرية من خمس قصائد قصيرة)
بقلم زكريا شيخ أحمد
1
ميلاد الجبل
حين انفتح الفجرُ الأول
كانت الأرضُ تبحث عن كتفٍ
تستند إليه،
فأعطاها الجبلُ عظمةً تشبه قلباً
لم يُخلق ليرتاح.
و من تلك العظمة وُلدتْ أرضٌ
تجرّحُ الوافدين و تضمّ أبناءها،
أرضٌ تعرف أن الحزن قدَرُ الشعوبِ الكريمة،
و أن الكرامة لا تُعلَّمُ و إنّما تُورّث.
سمّوها كوردستان، لكنّها في سرّها
تحمل أسماءً لا تنطقها إلا الريح
و لا تحفظها إلا النسورُ التي لم تخضع يوماً
لسماءٍ ضيّقة.
2
حكاية النهر الذي عبر الدماء
على ضفاف نهرٍ شُقّ بحدّ السيوف،
كان الرجالُ يرفعون نداءاتهم
كأنهم يرفعون السماء.
لم يكن النهر ماءً، كان ممراً للموت و البعث،
كان شرياناً تجري فيه خطواتٌ
تعرف أن الحرية تُكتب أولاً على عظام الضحايا قبل أن تُكتب في الكتب.
و حين سال الطينُ بدماء الذين
لم يُمنحوا حقّ الموت بسلام،
غنّت النساءُ أغنيةً تجعل الحجارة تبكي
و ترفع الجبالُ لغتها
كما تُرفع الأكفّ في الصلاة.
3
صعود الأمة
من كلِّ قريةٍ خرج طفلٌ
يحمل في جيبه حرفاً ممنوعاً
و من كلِّ مدينةٍ خرج شيخٌ
يدوّن على عصاه خريطةً
تخاف الدول أن تراها.
في الليل كانت الجبال تنحني قليلاً
لتسمع كيف يربط الناسُ أصواتهم
بأعناق الأحلام
و كيف يصنعون من الضياع وطناً يمشي.
لا شيء أقسى من أمةٍ
تعرف أن الظلم ليس قدراً ،
بل خصماً يمكن هزيمته.
4
انبعاث كوردستان
و حين ضاق الليل بصمت الأحياء،
انفجرت الأرضُ من تحت أقدام القتلى،
و قال الظلّ لصاحبه:
قُم… فالطريقُ لم يُخلق
ليُطوى.
رصيفٌ مهدومٌ صار نشيداً،
غرفةٌ محروقة صارت مهداً ،
و فتاةٌ صغيرة خرجت من بين الأنقاض
و هي تحمل شظيةَ ضوء
و تقول:
“هذه بلادٌ لا تموت،
فهي تلد نفسها
كلما مزّقوها.”
و هكذا …هكذا
نهض الجبلُ مرة أخرى
و ارتدى اسمه،
و مشى الشعبُ تحت ظله،
لا ليحتمي… بل ليكبر.
5
كوردستان
كوردستان
ليست سطراً في كتاب،
و لا دمعةً على خدّ التاريخ،
إنها جسدٌ يقاوم و يفهم أن الحقّ
قد يمشي ببطء، لكنه يصل.
و إذا سقط النهار تنهض هي
و إذا ضاق الهواء توسّعه
و إذا انطفأت الأصوات تصدح جبالها
بصوتٍ يعرفه الذين يولدون للحرية
و لو خذلتهم كلُّ الخرائط.







