حمزه الحسن يكتب :مصيدة الأمل

ــــــــ قد يقع الانسان ضحية ثقته بنبل القلب* دوستويفسكي.
يمكن أن أجزم هذه المرة في أن جميع الأشخاص الذين عرفتهم شخصياً وتحطمت حياتهم بطرق مختلفة ،
هم ضحايا الأمل الذين عاشوا في انتظار الأمل. الأمل صناعة وفعل وتخطيط وفي حالات مغامرة وليست هناك شجاعة أكثر من شجاعة الخاسر كل شيء.
ــ غالباً ما يصدق الانسان الكذب اذا كان يعيش في الأمل* إريك ماريا ريمارك، مؤلف: ليلة لشبونة.
لا شيء يستنزف الانسان اكثر من الخوف والامل والانتظار. كتب الروائي والمفكر الفرنسي اندريه مالرو:
” “الأمل ليس مجرد رغبة في أن تتحسن الأمور. الأمل هو قدرتنا على الفعل رغم كل شيء.”
مالرو كتب رواية” الأمل” عن الحرب الأهلية الاسبانية عام 1937 التي شارك فيها ضمن القطار الأممي المنطلق من باريس لنجدة الجمهورية ضد الفاشيين كجورج أورويل والشاعر انطونيو ما تشادو وأرنست همنغواي وبابلو نيرودا وإيليا أهرينبيرغ مؤلف” ذوبان الثلوج” الصرخة التي هزت الاتحاد السوفيتي بعد وفاة ستالين، وغارسيا لوركا وغيرهم .
أحب الفاشيون والجمهوريون معاً رواية” الأمل” لأن مالرو لم يتحدث عن البطولة بل عن المصير البشري.
أما جورج أورويل مؤلف الرواية الشهيرة” 1984″ الذي كان معروفًا بمواقفه المناهضة للفاشية والشمولية، شارك شخصيًا في الحرب الأهلية الإسبانية كجندي في صفوف الميليشيات الجمهورية التي كانت تقاوم قوات الجنرال فرانكو والفاشيين لكنه ترك الحرب عندما وجد أن طرفي الصراع يمارسون الفظاعات والجرائم نفسها بل كانت العاصمة مدريد ساحة حرب بين الشيوعيين أنفسهم وبين التروتسكيين وكتب سيرته” وداعأً كتالونا” وخرج بجرح في عنقه غير صوته حتى اليوم الأخير.
تجربة أورويل في الحرب كان لها تأثير عميق على أفكاره الأدبية والفلسفية، وأثرت على أعماله الكبرى التي كتبها بعد الحرب.
يقول الروائي المفكر أندريه مالرو وزير ثقافة ديغول وصديقه الحميم الذي كان يوم وفاته مأتماً فرنسياً عاماً وفرشت السجادة الحمراء من قصر الأليزيه الى مقبرة العظماء البانتيوم:
” الأمل أكبر مصادر الكذب”.
بلا شك هو الأمل الزائف الساذج ويسمى البانغلوسين Panglossian، أكبر مصادر الأوهام والخيبات وهو مقبرة الأحلام النظيفة التي تتعفن من الانتظار وتعفن صاحبها ويتحول الى جيفة متنقلة من الداخل رغم الاناقة الخارجية.
هو نظام المتاهة والحلقة المفرغة حسب عالم النفس والفيلسوف والمؤرخ أريك فروم القائم على أوهام وعلى عجز وانتظار. الامل الزائف اخطر من اليأس المحرر من الاوهام لانه يحرض على العمل والبحث بدل الوقوع في مصيدة أمل وهمي يتحول في الذهن الى واقع لن يتحقق. الامل خلق وصناعة وابداع.
كل أصدقائي الذين أعرفهم معرفة مباشرة لسنوات من العراق الى المنفى اعترفوا في نهاية حياتهم انهم وقعوا في خطيئة الأمل الساذج وفات الأوان وقد اكتشفوا في التأملات الأخيرة كمية الفرص السانحة في متناولهم وقربهم للخروج من المأزق وصناعة الأمل لكن الخطأ الفادح الذي وقعوا فيه هو أنهم نظروا للمشكلة من داخلها حيث تبدو مغلقة ومتاهة وحلقة مفرغة وليس من خارجها، أو التفكير الجانبي الابداعي “Lateral Thinking” من خارج الصندوق الذي يرى اوسع من خارج القواعد المنطقية المدرسية والقوالب الجاهزة، كجنود مداهمين يبحثون عن بنادق معلقة على أكتافهم ونظروا للمشكلة كنظرة دجاجة حول دائرة الطباشير حولها وتصورتها حيطانا عالية نتيجة الخوف المشل وقد جسد الكاتب المسرحي برشت ذلك في مسرحيته” دائرة الطباشير”.
كان على هؤلاء فك الارتباط بين الأمل العام والأمل الشخصي لأن الرهان على حل عام وخلاص جماعي غير ممكن في دولنا التي يتقرر مصيرها من خارجها وكل رهان من هذا النوع انتهى بكارثة وفاجعة في أن القادم أسوأ من السابق كمستنقع وحل لزج ما أن ترفع قدمك اليسرى حتى تنغرز اليمنى.
الذين يعتزون بانفسهم وفي تواصل مع ذات طبيعية لان التواصل مع ذات مزيفة مقنّعة لا يحدث كما لا يحدث الاتصال برقم هاتف لا وجود له، يملكون طاقة خارقة على تحمل العواصف وعلى ابتكار الحلول. حتى في ظل الهزيمة يمكن العثور على أمل من خارج الحسابات التقليدية الثنائية عن الربح والخسارة.
الامل الطويل يجعل الفرد جيفة داخلية متجولة انيقة من الخارج لكن وحدها تشم من الداخل رائحة العفن والحريق لكنها لا ترى ناراً.
في رباعية الروائي الياباني يوكيو ميشيما” بحر الخصوبة” حامل نوبل”: ثلج الربيع، الجياد الهاربة، معبد الفجر، وفي الجزء الأخير” سقوط الملاك” يأتي هوندا الشخصية المحورية في الرباعية، بعد تجارب وخيبات الى المعبد ويسأل الكاهنة النصيحة فتقول له العبارة الأخيرة الحكيمة الوحيدة التي تلخص الحكمة الآسيوية: ” إعمل كما يمليه عليك قلبك”.
نصيحة الكاهنة اليابانية أقرب الى نصيحة سيدوري صاحبة الحانة البابلية يوم جاءها ملك أور كلكامش رث الثياب مشردا بعد أن صدم لوفاة صديقه أنكيدو يطلب النصيحة فقالت:
“أنت يا كلكامش، لا يمكن أن تعيش الحياة كلها أو تتحكم في الخلود. إذن، لا تضيع وقتك في السعي وراء الخلود لأن ذلك لا يمكن تحققه. بدلاً من ذلك، عِش حياتك كما هي، تمتع بكل لحظة فيها.”
القصة نفسها والنصيحة نفسها على اختلاف العصور: الأمل الزائف مصيدة: على كل شخص أن يسمع صوت قلبه لأن العقل عضو اجتماعي يراوغ ويخدع.
ما يسمى” العقل” ليس المادة العضوية الدماغ بل المحتوى الثقافي والفكري هو شكل من أشكال السلطة تم زرعه منذ الولادة على مراحل يقوم بدور مؤسسة رقابية أمنية صارمة خفية كبرنامج تلصص وتحكم سري داخلي يُفعّل تلقائياً وذاتياً عند الخروج من قواعده.







