رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :برع يا استعمار… وبرع يا عقل!

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

“برع يا استعمار!”
صرخةٌ هزّت الشوارع العربية يومًا…
لكنها اليوم صارت مجرد شعار يُعلّق على لافتة بينما نصف الشباب يملأون طوابير السفارات، والنصف الآخر يراجع مواقع الهجرة، والنصف الثالث (نعم، عندنا أنصاف إضافية) يجمع المال ليشتري تذكرة خروج بلا عودة.
العربي الذي يلعن المستعمر نهارًا…
يسافر إليه ليلًا.
والذي يهتف ضد “الغزو” في الميدان…
يمضي حياته في انتظار الغرين كارد أو تأشيرة شينغن، حتى صار الدعاء الشائع في السجود:
“اللهم افتح لنا أبواب الهجرة كما فتحت البحر لموسى.”
يا سادة…
هل رأيتم يومًا يابانيًا يتدحرج على باب سفارة عربية يريد جوازًا عربيًا؟
هل شاهدتم صينيًا يتوسل الحصول على إقامة في “الجمهورية الفاضلة”؟
هل رأيتم فرنسيًا يهاجر ليعمل موظفًا في أرشيف بلدية عربية؟
هل رأيتم روسيًا يركض وراء جنسية بلد لا توجد فيه كهرباء كفاية لفعل “ركض” أصلاً؟
نحن نعاني من مرض اسمه:
“عقدة الأجنبي… مع شتيمة المستعمر في الوقت نفسه.”
أولاً: التحليل النفسي — بين العزة اللفظية والهروب العملي
العربي يعاني انقسامًا داخليًا حادًا:
هو يؤمن بأنه “ابن حضارة عظيمة”…
لكن هذه الحضارة للأسف لا تجيب على المكالمات منذ ألف عام.
هو يحب وطنه…
لكن من بعيد.
من خارج المطار.
وبجواز آخر.
وهذا الاضطراب النفسي بين الفخر التاريخي والواقع المنهك يولّد صراخًا قوميًّا عاليًا…
وسلوكًا هروبيًا أسرع من سرعة الإنترنت في دول العالم المتقدم (الذي نحلم بجوازاته ونلعنه في الوقت نفسه).
ثانيًا: الاجتماعي — مجتمعات لا تصنع حياة فتنزف أبناءها
المجتمع الذي يحاصر طموح الشاب بالشروط:
“لا تتكلم… لا تنتقد… لا تحلم… لا تفكر… لا تناقش…”
هو مجتمعٌ يكتب لابنه في نهاية كل هذه الممنوعات جملة صغيرة:
“سافر يا ابني… الله يسهل عليك.”
الهجرة ليست رغبة…
إنها نتيجة.
نتيجة لمجتمع يقدس الشعار ويقتل الإنسان.
ثالثًا: الثقافي — ثقافة تمجيد الماضي وهروب من الحاضر
“كنا… وكان أجدادنا… وكنا أول من…”
يا أخي طيب والآن؟
الآن نحن أول من يحجز دورًا في السفارات، وأول من يتخرج من مدرسة “كيف تهاجر دون أن تهاجر”.
الثقافة التي تعيش في الماضي لن تصلح الحاضر، ولن تقنع شابًا واحدًا بالبقاء في بلد لا يحترم عقله ولا طموحه ولا عمره.
رابعًا: السياسي — دولة تُخرِج مواطنيها بدل أن تَحتضِنهم
الأنظمة العربية تتقن شيئًا واحدًا:
تصدير المواطنين مثلما يُصدَّر النفط.
بدل بناء دولة قانون، تصنع دولة خوف.
وبدل تقديم فرص، تقدم خطابات.
وبدل أن تقول للشباب “مستقبلك هنا”، تقول لهم:
“نحن أصل العرب… والسفارة هناك.”
خامسًا: الاقتصادي — فقر يجعل الهجرة عبادة
حين يصبح راتب المواطن لا يكفي لشراء بصل…
وحين يكون الحد الأدنى للأجور أقرب للدعابة…
وحين تكون البطالة أعلى من منسوب الثقة بين المواطن والدولة…
عندها تصبح الهجرة “خلاصًا اقتصاديًا”، بل مشروع حياة.
حتى الأغنياء لا يثقون في المستقبل…
يهاجرون خوفًا من القادم، لأن الدولة نفسها لا تعرف القادم.
سادسًا: العسكري — قوة تقاتل في كل الاتجاهات إلا اتجاه الفساد
العرب جيوش قوية…
لكنها لا تحارب الفقر، ولا تحمي المواطن من الإهانة، ولا توقف نزيف الشباب إلى الخارج.
تقاتل في السياسة…
وتتصالح في الاقتصاد…
وتنهزم أمام الهجرة.
سابعًا: الدبلوماسي — علاقات تُبنى للحصول على منح لا لإعادة البشر
العربي يعشق المؤتمرات الدولية…
ويجمع صورًا مع السفراء…
ويبحث عن أي فرصة ليتباهى بأنه “رجل دولة”.
لكن الدولة نفسها لا تعرف كيف تعيد العقول التي هاجرت، ولا الأطباء، ولا العلماء، ولا أصحاب المهارات الذين أصبحوا سلعة تنافسية في الخارج.
الدبلوماسية التي لا تستعيد أبناءها…
هي دبلوماسية فارغة.
الخلاصة — عقدة الأجنبي: هزيمة داخلية قبل أن تكون استعمارًا خارجيًا
نكره المستعمر…
لكن نثق ببنائه.
نلعن ثقافته…
لكن نربي أبناءنا على لغته.
نريده “برع”…
لكننا ننتظر أمام أبوابه كي يدخلنا.
هذه ليست مفارقة…
هذه هزيمة ثقافية وانهيار ثقة بالذات وعجز سياسي وضياع اقتصادي.
الرؤية للخروج — أخيرًا، بديل عن الصراخ!
1. دولة قانون تحترم الإنسان قبل الأرض.
2. اقتصاد يجعل المواطن يفكر كيف ينجح… لا كيف يهرب.
3. تعليم يبني إنسانًا لا يردد شعارات فارغة.
4. ثقافة عمل لا ثقافة ماضي.
5. سياسة تقوم على المواطنة لا على الولاء.
6. إعلام يصنع وعيًا… لا مهرجانًا.
عندها فقط…
لن نحتاج أن نقول “برع يا استعمار”.
لأننا سنكون أقوى من أن يطمع فينا أحد.
ولن نحتاج أن نقول “أدخلني يا استعمار”.
لأننا سنجد وطنًا يستحق أن نعيش فيه… لا أن نهرب منه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock