هاني الكنيسي يكتب :فلسفة العفو عن النتنياهو .. بين لعبة الشطرنج والاقتداء بالتاريخ الفاسد

الإسرائيليون منقسمون حول طلب النتنياهو “العفو عند المصلحة” من رئيس دولته الصهيوني ‘إسحق هرتسوغ’، بين يمين متطرف مؤيد لوقف محاكمة ‘بيبي’ بتهم الفساد والرشوة من أجل تفريغه للإجهاز على الأعداء في فلسطين ولبنان وسوريا وإيران، ومعارضة يمينية تسعى للحصول على صفقة عفو مقابل اعتزال المشهد السياسي، ومعارضة يسارية ترفض مبدأ العفو وتطالب باحترام القانون الذي لا يحمي الفاسدين.
استطلاعات الرأي العام (أحدثها أجراه مركز ‘أكورد’ التابع للجامعة العبرية) أكدت أن نسبة المؤيدين للعفو من أفراد الشعب (اليهود والعرب) تكاد تعادل نسبة الرافضين.
والإعلام العبري المنقسم أيضًا، يسرّب “تكهنات” بشأن القرار المرتقب من رئيس الدولة “المرتبك” الذي تعهّد بعمل ما تمليه المصلحة الوطنية العليا (لكنه فضّل الهروب من الضغوط بالتخطيط لزيارة نيويورك ومواجهة عمدتها المسلم زهران ممداني المكروه إسرائيليا)، ما بين “ترجيحات” تداولتها القناة 13 بأن يوافق هرتسوغ على طلب العفو مقابل التبكير بالانتخابات العامة، و”تصريحات” لقانونيين (أحدهم محامي النتنياهو السابق) يؤكدون استحالة العفو بدون “إقرار بالذنب” (وهو ما يرفضه رئيس الحكومة تماما لأنه سيعني خسارة الانتخابات)، و”تحليلات” ذهبت في شططها -كما فعلت صحيفة ‘يسرائيل هيوم’ مثلا- إلى الربط بين طلب العفو عن النتنياهو الذي يدعمه (بل وقدّمه سابقًا) الرئيس الأمريكي ترمب والاستعداد لعمل عسكري كبير أو صفقة إقليمية مع إيران، و”كلاهما من شأنه التأثير على مستقبل إسرائيل والشرق الأوسط بأكمله”. وقد استندت في نظريتها تلك إلى مصادر سياسية انتبهت لأحد سطور طلب العفو، الذي يقول فيه النتنياهو إن مطلبه “من أجل المصلحة الوطنية في توقيت تقدم فيه منطقة الشرق الأوسط على حدث جلل”.
ومن بين عديد التنظيرات، استوقفني نوعان:
أولهما، مقال للكاتبة والمذيعة ‘ليات رون’ تشبّه فيه النتنياهو بلاعب الشطرنج المحترف (وبالتحديد بالأسطورة الروسي كاسباروف)، الذي يخطط بمنتهى التأني لكل “حركة” على الرقعة السياسية حتى عندما تحترق، ولا يعترف بالمصادفات. وترى الكاتبة أن طلب العفو ليس سوى جزء من “حملة سياسية مُخطط لها جيدًا”، بدأت بخطبة ترمب في الكنيست قبل شهرين حين طلب من ‘هرتسوغ’ علنًا -وكأنه يمازحه- أن يعفو عن ربيبه ‘بيبي’ الذي لم يرتكب جرمًا بتلقي “هدايا رمزية كزجاجة شمبانيا وعلبة سيجار.. ومن يهتم بتلك التفاهات؟!”. ثم يوضح المقال أن تمسك الرئيس الإسرائيلي “المذهول والمحرَج” بالقانون الذي ينص على أن “طلب عفو يجب أن يُقدّم رسميًا من الشخص المعني أو أحد أقاربه من الدرجة الأولى”، أجبر النتنياهو في النهاية على إعادة تقديم الالتماس .. لكن “في سياق خطة مرسومة ومتفق عليها مع سيد البيت الأبيض”.
والثاني، تقرير ‘يديعوت أحرونوت’ الذي يتناول القضية من زاوية “ممتعة” صحفيًا. إذ يرى كاتبه أن النتنياهو -بطلبه هذا- يريد أن يسير على خطا قائمة طويلة من زعماء العالم الذين حصلوا على “الرأفة”، بعد معارك سياسية وسجالات قانونية. وقد عاد بعضهم إلى السلطة لاحقًا، واختفى آخرون من المشهد العام – لكنهم أصبحوا جميعا رموزا تاريخيين.
ومن بين أبرز الأمثلة (وأشهرها)، الرئيس الأمريكي الأسبق ‘ريتشارد نيكسون’ الذي أجبرته فضيحة ‘ووترغيت’ (بعد الكشف عن أدلة تورطه في التنصت على مقر الحزب الديمقراطي، وإدانته بعرقلة العدالة وإساءة استخدام مؤسسات الدولة ضد منافسيه) على الاستقالة عام 1974، ليصبح الرئيس الأمريكي الوحيد الذي استقال من منصبه. وعلى الفور، منحه خليفته ‘جيرالد فورد’ عفوا كاملا مدّعيا أنه يريد “إنهاء الكابوس الوطني” (برغم اتفاق بعض المؤرخين على وجود اتفاق غير مكتوب بين الرجلين)، وهو ربما ما كان سببًا في خسارة فورد الانتخابات عام 1976، ووضع نهاية مأساوية لمسيرتهما المهنية.
ومن بعده، يبرز اسم ‘ألبرتو فوجيموري’ الذي حكم بيرو بقبضة حديدية طوال التسعينيات، واتُهم نظامه بممارسة التعذيب والإخفاء القسري، وطالته فضائح فساد ضخمة، إلى أن صدر أمر دولي باعتقاله عام 2003، وسلّمته شيلي التي لجأ إليها عام 2007، ليُحاكم ويدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكم عليه بالسجن لمدة 25 عاما. لكنه حصل على عفو رئاسي في عام 2017، “لأسباب إنسانية” بسبب حالته الصحية (في صفقة سياسية مريبة مع الرئيس آنذاك’ كوتشينسكي’)، وبالفعل أُطلق سراح ‘فوجيموري’ عام 2022.
وكذلك، ‘تاكسين شيناواترا’ الذي أصبح رئيس وزراء تايلاند عام 2001، وانتهج سياسة شعبوية متحديا النظام الملكي المحافظ والمؤسسة العسكرية، فأطيح به في انقلاب عسكري عام 2006، وبقي في منفاه بالخارج، وأدين بتهم فساد، وحكم عليه غيابيًا بالسجن. وفي عام 2023 فقط، عاد إلى تايلاند، ليحصل على عفو ملكي خفض عقوبته، في إطار صفقة سياسية بين حزبه والجيش.
أما الملياردير ‘سيلفيو برلسكوني’ قطب الإعلام ورئيس وزراء إيطاليا لثلاث فترات غير متصلة (بدأت في التسعينات وكان آخرها 2008 إلى2011)، فأمضى معظم مسيرته السياسية بين المحاكم، في مواجهة اتهامات بالاحتيال والرشوة والدعارة (فضيحة “بونغا بونغا”) والفساد ..إلخ. ولم يُسجن إلا بسبب “احتيال ضريبي”، لكن تم تخفيف عقوبته -في صيغة أشبه بالعفو- إلى خدمة مجتمعية لمدة عام واحد في دار للمسنّين، بينما استمر في قيادة حزبه وممارسة نشاطه السياسي!!
وعلى غراره، شغل نواز شريف منصب رئيس وزراء باكستان لثلاث فترات مختلفة على مدى 27 عاما. وفي كل مرة أطاح به الجيش أو قرار المحكمة العليا. وفي عام 2017، أدين في فضيحة الفساد المعروفة بـ”أوراق بنما”، وحُكمت عليه بالسجن 10 سنوات بينما كان يُعالج في الخارج. وتحوّل في منفاه (بالسعودية)، إلى معارض صريح للمؤسسة العسكرية. وفي 2023 عاد إلى إسلام آباد، وأسقطت المحكمة العليا “بشكل مفاجئ” الأحكام عنه – وهو ما تم تفسيره آنذاك بأنه “عفو سياسي” للنيل من سلطة منافسه، رئيس الوزراء السابق عمران خان (المسجون منذ عام 2023 بتهم متنوعة، وينتظر “عفوًا” غير مأمول).
وهكذا تطول قائمة العفو في التاريخ “السياسي” .. فلماذا لا ينضم إليها ‘بيبي’ الغلبان؟ ولا يعني عشان مالوش سند في الدنيا إلا واحد برتقالي أهوج وعصابة من مجرمي الحرب؟!!!







