رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :المغامرة الفكرية كشرف

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

الاختزال العربي في حصر الأخلاق في السلوك الظاهر فقط، هو بالفعل اختزال قد يكون مُقوِّضًا للنظرة الشاملة للأخلاق. النظرة الأشمل للأخلاق تتجاوز هذا بكثير وتشمل المنظومة القيمية الداخلية والأفعال الفكرية والإبداعية كجزء جوهري من الاخلاق ومن الجمال. الأخلاق في المنظور العام هي الامتناع عن الشر وهذا الاختزال يحذف الجانب الخلاق في الانسان في الدفاع عن العدالة والحقيقة والمعرفة وتبلغ الأخلاق ذروتها في الشجاعة الفكرية والمغامرة الابداعية في الطب التي أنقذت الملايين وفي المغامرة السردية التي كشفت جوانب مخفية من الواقع.
ذهنية الفروسية العربية لا تضع المعرفة والخلق والعلم والابداع الفكري كجزء جوهري من الشرف مع ان العربي يعيش في كل تفاصيل حياته اليومية على منجزات الحداثة والكشوفات العلمية والثقافية الغربية في الطب والاتصالات والنقل والتواصل وفي تفاصيل أبعد ومع ذلك يلعن العقل المنتج لها لكنه يعيش على ابتكارات هذا العقل. كل ابتكارات العقل العربي هو ثقب الابرة وابريق الوضوء وصناعة العكل والتوابيت.
كما ان اختزال مفهوم الشرف في جانب واحد هو تضييق لمفهوم الشرف ويجري تجاهل الشرف الفكري وشرف المعرفة وشرف الدفاع عن الحياة والكرامة الانسانية وهذا الاختزال هو تهميش للقضايا الكبرى كالاستبداد مثلاً كما أن شرف الانسان في الوضوح الآسر الذي يجعلك تشعر بالنمو والفرح والثقة والأمان مع انسان هو نفسه في الداخل كما في الخارج ويتكلم كما يفكر ويفعل كما يفكر وليس أمام مستودع شخصيات.
لماذا لا نضع البحث والكشف والابداع والشجاعة الادبية والمغامرة الفكرية،
وخلخلة السكون وكشف الأقنعة، والدفاع عن الكرامة البشرية، والوضوح،
كجزء جوهري من أخلاق الكاتب ومن أخلاق الانسان والمثقف؟
القلق الفكر هو اخلاق. الكشف عن المسكوت عنه والمخفي هو شرف. التضامن مع محن البشر والدفاع عن العدالة هو أخلاق صافية. لماذا الاختزال الذي يقوض مفهوم الشرف؟
أليس النسج والسرد اللغوي والجمال والابتكار والخلق من الأخلاق أيضاً؟.
وماذا تنفعنا الأخلاق الشخصية للكاتب الفاشل؟ ماذا يهمنا كيف عاش شكسبير حياته الخاصة أكثر مما تهمنا أعماله الخالدة؟
تناقض وصراع المفكر والفنان والمثقف والكاتب مع السلطة السياسية والاجتماعية والمؤسسات والصراع بينهما تم عبر التاريخ ولم تكن العلاقة يوماً علاقة إنسجام حتى في الدول الاسكندنافية المرفهة،
لكن” التطابق” بينه وبين السلط موجود في دولنا رغم كل الفظاعات والاكراهات. واذا كان الكاتب متطابقاً ومتصالحا ًمع المجتمع، فلماذا لا يصبح بائع شاورمة بتعبير حنا مينا؟
إختزال الانسان في موقف واحد حقيقي أو متخيل، هو سلوك سلطة تؤرشف للناس، وخاصية العقل المتخلف: أبيض وأسود.
الانسان طاقة تحولات من الولادة وحتى الموت، من اليقظة وحتى النوم وما بعد النوم في الاحلام،
ومن الغباء حبسه في حالة أو موقف وغلق حياته كملف.
أخلاق الكاتب والفنان في أن يعمل بكفاءة وموهبة وإخلاص، وعكس ذلك لا تشفع له أخلاقه الاجتماعية لأنها شأن خاص.
ما الذي يهمنا مثلاً كيف كان عاش البير كامو أكثر مما يهمنا نصوصه الابداعية العظيمة في الغريب والطاعون والمقصلة والمتمرد؟
هو القائل: ” تعرفون إسمي ولا تعرفون قصتي، تعرفون ماذا فعلت ولا تعرفون الظروف التي مررت بها، فتوقفوا عن الحكم عليّ وإنشغلوا بأنفسكم.”
ماذا يعني لنا أن فلوبير كان يشرب أكثر من خمسين فنجان قهوة في الليلة الواحدة لكي يكتب، أكثر مما تهمنا رائعته: مدام بوفاري؟
كارل ماركس كان في شبابه زبون حانات ومطاردة النساء وعليه
دعاوى مشاجرات كثيرة ، لكنه قلب العالم حتى اليوم.
ماذا يعني لنا أن سلفادور دالي عشق زوجة الشاعر بول ايلوار غالا وتزوجها،
أكثر مما تهمنا لوحاته؟
ما الذي ينقص، مثلاً، مثلاً، من غابريل ماركيز عندما لكمه الروائي ماريا بارغاس يوسا يوماً أمام زوجته مرسيدس،
وكلاهما حامل نوبل أكثر مما تهمنا روائعه في:
مئة عام من العزلة وليس للكولونيل من يراسله وحكاية موت معلن؟
ليست مسؤولية أحد محاكمة أو محاسبة الشاعر جيرار دورنيفال
لانتحاره فهو وحده عاش ظروفاً خاصة، وهو وحده تعامل معها ونحن نسمع قصته من السطح ولا نعرف كيف هي التفاصيل فلماذا ننشغل بحياته،
وننسى انجازه الشعري؟
ديستوفسكي كان مدمناً على القمار والشراب، لكن عظمته في رواية الجريمة والعقاب وفي غيرها،
أليس بناء عوالم مغايرة ونزع النقاب عن الزيف هي أيضاً أخلاق؟
في نوبة غضب وسعار قتل التوسير زوجته بحجرة في الشارع صدفةً،
لكن من المستحيل تجاوز كشوفات هذا العالم اللغوي،
حتى أن المحكمة نظرت بذلك .
قضى نيتشه سنوات في مصحات عقلية، لكن لا أحد اليوم ينسى أو ينكر أنه هو مؤسس الحداثة الغربية. أليست هذه أخلاقاً في جعل الناس يفكرون بطريقة مغايرة مما عجزت عنه دول ومؤسسات خلال قرون؟
رغم كل الهوان والاهمال والمتاعب التي تعرض لها نيتشة، لكنه واثق من نفسه وقال عبارة تحمل نبوءة مذهلة واثقة:
” أنا رجل سيولد بعد موته”،
اليوم في الغرب يجري اكتشافه.
ميشيل فوكو قضى سنوات في مصح عقلي إجباري مغلق، لكنه هو من حرث الفلسفة الغربية وفضح تاريخ الغرب المخفي والمسكوت عنه في كتابه المرجعي الذي غير تاريخ الفكر والطب والثقافة:
” الجنون في العصر الكلاسيكي”.
الروائية النمساوية ألفريدي ألينيك تعاني من رهاب الخوف من البشر،
ولم تذهب لحفل نوبل لاستلام الجائزة، لكنها مع ذلك لم تنس العراق ووضعت كتاباً ضد الاحتلال بعنوان: بلاد القنبلة،
يوم كان مثقفوه يحتفلون بخرابه.
ما هي المشكلة إذا كان بيكاسيو تزوج 6 مرات،
وكان مولعاً بشراء الأحذية حتى أنه إشترى مرة أحذية كل المحل وعندما جاء بعده الشاعر لويس أراغون أحد شعراء المقاومة الفرنسية،
لم يجد حذاءً ليشتريه وبيكاسيو صفر المحل؟
بيكاسيو موجود في لوحاته الخالدة، وأخلاقه في هذا الابداع الهائل.
أراغون نفسه قبل التعرف على إيلزا المثقفة كان كحولكياً ينام على الأرصفة،
لكن إيلزا أعادت صياغته لذلك دفن معها في قبر واحد متحاضنين.
الفيلسوف البريطاني شوبنهاور كان يعاني من رهاب القتل، ويخشى أن الروائي الفرنسي بلزاك يعبر بحر المانش ويقتله،
ولا ينام إلا والمسدس تحت وسادته، لكن من ينكر فلسفة شوبنهاور؟
الروائي أرنست همنغواي مصارعة وملاكمة وحروب وتكسير صحون ومشاجرات بارات وصيد واطلاق نار وعلاج من جنون الارتياب،
لكن أخلاق همنغواي في رواياته العظيمة:
لمن تقرع الاجراس، وداعاً أيها السلاح، والشمس تشرق أيضاً.
الشاعر بودلير ــ مخدرات وكحول.
الشاعر هولدرن ــ كآبة.
أنطونيور أرتر ــ قلق وانتحار.
كافكا ــ قلق وجودي من الحياة.
الشاعر لوتريامون ــ كآبة وانتحار في العشرين.
الفيلسوف ديكارت ــ شبه مجنون.
الشاعر الالماني نوفاليس ـــ قلق حاد.
غوته حاول الانتحار وفشل مرات فكتب رواية ” آلام فارتر”،
وجعل بطلها ينتحر بالإنابة عنه.
ثلاثة من كبار فلاسفة أوروبا سارتر وجاك ديريدا وسيمون دي بوفوار،
عصاب نفسي حتى أن ديريدا شكر العصاب لأنه منقذ من القطيع.
فولتير وبلزاك وفلوبير، عادات غريبة، وجنون دوري. الكاتب الأمريكي أدغار ألان بو، مخدرات وهلاوس وكحول.
الفيلسوف السويسري جان جاك روسو الذي غير حياة الغرب بكتابه العقد الاجتماعي وهرب الى فرنسا كان يعاني من الخوف وعقدة المطاردة والارتياب.
لحظة مؤثرة عندما وقفت أمام داره في جنييف قبل سنوات.
الروائي كونراد وموباسان وكامو والموسيقار بتهوفن، والرسام كلود مونيه والرسام فان كوخ قلق وخوف وانتحار. الروائية فرجينيا وولف كآبة وإنتحار.
عالم النفس فرويد نفسه عصاب نفسي إنتهى بالإنتحار،
لكن لا يمكن إنكار ثورته في علم النفس بعد أن جعل العقل حقلاً
للدراسة والبحث بدل تركه للمشعوذين.
الفيلسوف الدنماركي كيركغارد والشاعر الالماني ريلكه،
الروائي الروسي باسترناك والشاعر البرتغالي بيسوا قلق وكآبة. الشاعر الروسي مايكوفسي، إنتحار، الرسام سيزان أيضاً،
جان جينيه والروائي المغربي محمد شكري، كحول ومخدرات وعصاب.
الموسيقار الألماني شومان كان يقيم حفلاً في منزله، لكنه فجأة إستأذن من المدعويين لقضاء عمل، ذهب إلى نهر الراين ورمى نفسه في النهر منتحراً،
لكن صيادين قربه أنقذوه وتشاجر معهم.
ماذا تهمنا تلك الحادثة أكثر مما تهمنا موسيقاه التي تصدح في صالات برلين وفينا وباريس وغيرها؟
يقال اليوم في الغرب إن الحداثة الغربية من صنع مجانين،
لكنه الجنون الإبداعي وليس الخبل والعته. هؤلاء كانوا أطفالاً عمالقة كشفوا دروباً جديدة، بحساسية ورهافة ومغامرة فكرية خارج النمط والسياق،
ومن حسن حظهم أنهم عاشوا في مجتمعات متفهمة وفارغة من المعارات الصبيانية والقبلية كما في عالم مثقفينا .
هؤلاء واجهوا ظروفاً صعبة وهم وحدهم من تعامل معها، وكل ما يهمنا أن أعمال هؤلاء خففت من ضراوة الوحشية، ويمكن تخيل العالم بلا هؤلاء العظماء.
يتباهى البعض بالـــ” التوازن” و” العقلانية” في هذه المذبحة المستمرة،
وهو التوازن نفسه الذي نراه في المقابر وخيول الاسطبلات بعد العلف.
القلق الفكري ليس نقيض التوازن والانسجام بل وجهه الآخر،
والعقلانية لا تعني التحنط أمام البشاعات والظلم والجرائم إلا إذا اعتبرنا الأبقار التي تسرح مطمئنةً في العشب قرب جدران المسلخ عاقلة ومنسجمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock