رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب :أحفاد التاريخ… وورثة اللاشيء

حين يتحوّل الماضي إلى وسيلة تبرير للسرقة والفشل

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في اليمن، يخرج عليك كل يوم واحد مزهوّاً يقول لك:
“نحن أحفاد سبأ وحمير وقحطان!”
وكأن الأنساب تُشغّل الكهرباء، وتُصلح الطرق، وتدفع الرواتب، وتعيد الدولة من تحت الركام.
نعم… كان لدينا حضارة تهز الجبال.
حضارة تُدرّس، وتُعرض اليوم في المتاحف العالمية بعد أن سرقت الموانئ والمطارات ما تبقى من آثارها.
حضارة لم يعد يظهر منها شيء سوى صور في Google ومجسمات في معارض أوروبا… بينما “أحفادها” في الداخل يختلفون:
من الحفيد الحقيقي؟ ومن الوريث الشرعي للانهيار؟
علم النفس: لماذا نختبئ خلف الأجداد؟
الفرد اليمني اليوم يعيش عُقدة انتماء معكوسة:
بدل أن يصنع هو قيمة تُمجّده، يركض يتشبث بالماضي ليغطي عجز الحاضر.
إنه دفاع نفسي كلاسيكي:
عندما لا تستطيع أن تقول “أنا ناجح”، تقول: “جدي كان ناجحاً”.
الاجتماع: مجتمع يعيش على “الماضي بدل الحاضر”
تحولت الهوية من “أنا ماذا أفعل؟” إلى:
“أنا ابن من؟ وحفيد من؟”
والمجتمع يعزز هذا الوهم… فيُعيّن موظفاً لأن عمه كان قائداً، ويُرقّي آخر لأن جده كان شيخاً.
المشكلة ليست في الجد…
المشكلة في الحفيد الذي يلبس عباءة غيره لأنه يخاف من حجمه الحقيقي.
الثقافة: من حضارة مكتوبة إلى هوية منفوخة
حضارتنا العظيمة لم تبنها “أنساب”، بل بنّاؤون ومهندسون وتجّار وحكماء.
أما اليوم، فالأدب والثقافة صارت شعارات:
“نحن أصل العرب”
“نحن أول من…!”
“نحن خير من…!”
وفي الحقيقة، نحن آخر من يتعلم من التاريخ الذي نتغنى به.
السياسة: سياسة الواسطة بالجينات
السياسة صارت امتداداً للقبيلة أكثر من كونها مشروع دولة.
تبحث في القيادات ستجد:
– هذا ابن فلان
– وهذا حفيد شيخ
– وهذا صهر قائد
أما الكفاءة؟
تدفن تحت الطاولة مع بقية ملفات الدولة الضائعة.
الاقتصاد: أحفاد التاريخ… وأيتام التنمية
الاقتصاد لا يعترف بالأنساب.
البنك الدولي لا يسأل:
“ما هو نسبك يا بطل؟”
يسأل:
“كم الإنتاج؟ أين الخدمات؟ أين الشفافية؟ أين الاستقرار؟”
لكن في اليمن، ورث الكثيرون الثروة لا بجهدهم، بل بفضل اسم الجد… ثم صاروا أثرياء على جثث الشعب.
العسكر: السيف لا يحمل اسم الجد
في الدول الحديثة، الجيوش تُبنى بالعلم والاحتراف.
أما هنا:
“القائد ابن القائد”
“المشرف ابن السيد”
“المرافق ابن الشيخ”
وتستغرب بعدها كيف تهزمك عصابة بعدتها البسيطة.
العسكرية ليست وراثة… العسكرية انضباط وكفاءة وشجاعة.
الدبلوماسية: العالم لا يعترف إلا بمن يصنع الحاضر
الدبلوماسية اليوم لغة مصالح.
العالم لا يهمه أن جدك حكم سبأ.
يهمه:
– هل لديك دولة مستقرة؟
– هل لديك اقتصاد؟
– هل لديك مؤسسات؟
– هل تلتزم بالقانون الدولي؟
الأنساب لا تحضر اجتماعات الأمم المتحدة…
الحاضر هو الذي يُمثَّل هناك.
الخلاصة: أنت لست جدك… ولا جدك مذنب بخطاياك
المصيبة ليست أن الناس يفخرون بأجدادهم… هذا طبيعي.
المصيبة أن الحفاة فكرياً، المفلسين أخلاقياً، المدمنين على الواسطة
يريدوننا أن نحترمهم لأن “جدهم كان فلان”.
الفخر الحقيقي ليس وراثة…
الفخر عمل. إنجاز. بناء. علم. موقف.
رؤية للخروج من هذه الإشكالية
لنتجاوز وهم “أحفاد التاريخ”، نحتاج:
1) دولة قائمة على الكفاءة لا على الأنساب
القانون فوق القبيلة، والوظيفة تُمنح لمن يستحقها.
2) تعليم يعيد صياغة العقل اليمني
تعليم يربط الماضي بالحاضر… لا يعلّم الناس أن يعيشوا على فتات الأجداد.
3) مشروع وطني اقتصادي حقيقي
يعيد بناء الصناعات، الزراعة، الطاقة، ويخلق عملاً يمنح الناس هوية جديدة:
“أنا مواطن منتج… لا مجرد حفيد لفلان.”
4) جيش موحد غير وراثي
جيش احترافي، يعيد للدولة هيبتها ويُنهي دويلات السلاح.
5) مصالحة اجتماعية تعيد تعريف الانتماء
انتماء للوطن لا للعائلة.
خاتمة قوية
إن أعظم خيانة للتاريخ ليست أن ننساه…
بل أن نستخدمه لتبرير فسادنا، سرقاتنا، عجزنا، وخراب حاضرنا.
لا قيمة لجدي إن لم أكن أنا قيمة.
ولا فائدة من حضارة سبأ…
إن كان أحفادها اليوم يعيشون على الأطلال،
ويبيعون الوطن باسم الأنساب، بينما يرفضون أن يصنعوا حضارة جديدة.
الحفيد الحقيقي للتاريخ…
ليس من يحمل اسمه،
بل من يبني ما يستحق أن يُكتب عنه غداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock