أسود النيل في ثلوج القرم

في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الدولة العثمانية كجبلٍ شامخ يهدده الانهيار. ومن الشرق، هبّ الدب الروسي العملاق يطمع في المضائق والبحار الدافئة، متذرعاً بحماية المسيحيين الأرثوذكس في الأراضي المقدسة. لكن الجميع عرف الحقيقة: القيصر نيقولا الأول يحلم بإسطنبول نفسها.
صيف 1853، عبر الروس الدانوب واحتلوا والاخيا ومولدافيا. رد السلطان عبد المجيد الأول بكل قوته، وقاد عمر باشا الجيوش على الضفاف. لكن ليلة سينوب المشؤومة غيّرت كل شيء: أحرق الأسطول الروسي السفن العثمانية، وغرق الآلاف في مياه البحر الأسود الجليدية.
اهتز العالم. غضبت لندن وباريس، وأعلنتا الحرب إلى جانب السلطنة. وفي تلك اللحظة الحرجة، التفت السلطان جنوباً… نحو وادي النيل.
**نداء القاهرة**
تلقى الخديوي عباس حلمي الأول الرسالة. لم يتردد لحظة. قال كلمته التي سُطّرت بالذهب:
«مصر والسلطنة قلب واحد».
في يوليو 1853 أبحرت أول حملة مصرية. ثم تبعتها الثانية في ديسمبر. كان الجنود يودعون أمهاتهم وزوجاتهم على ضفاف النيل، يرفعون أكفانهم البيضاء فوق رؤوسهم دليل أنهم ذاهبون شهداء، لا ينتظرون عودة.
وصلت السفن إسطنبول، فخرج السلطان بنفسه لاستقبالهم، يعانق قادتهم ودموعه على خديه، وقال:
«أنتم عزّنا وفخرنا يا أبناء النيل».
**من تترخان إلى سلسترة**
لم يمكثوا طويلاً في العاصمة. انطلقوا فوراً إلى الجبهة.
في تترخان، في قرة أغاج، في كالافات… سطروا انتصارات جعلت الروس يرتعدون. وعند حصار سلسترة، دافعوا عن «طابية العرب» كأن كل حبة تراب فيها من طينة الجيزة.
كتب ضابط بريطاني في مذكراته:
«لو غاب المصريون يوماً واحداً، لسقط الحصن».
**سيفاستوبول: الملحمة الأعظم**
ثم جاء الاختبار الأكبر: حصار سيفاستوبول الذي دام عاماً كاملاً.
عاش جنودنا في خنادق تغطيها الثلوج. الشتاء يمزق الجلد، والقذائف لا تهدأ. كانوا يتقاسمون رغيفاً بين خمسة، وينامون بالدور فوق الجليد. تأخرت رواتبهم، نفدت الملابس الشتوية، ومع ذلك… لم يشتكِ أحد.
كانوا يهمسون في الليالي القارصة:
«إحنا بنموت هنا عشان السلطان… وعشان مصر ما تبقاش لوحدها يوماً ما».
في 1854، تولى سعيد باشا الحكم بعد وفاة عمه عباس حلمي. فماذا فعل؟
زاد لا نقص. أرسل حملة ثالثة أضخم، بقيادة البطل أحمد باشا المنكلي، الذي لقّبه التاريخ فيما بعد «أسد القرم».
قاتل المصريون على الدانوب، ثم داخل شبه جزيرة القرم نفسها. وكان لأسطولنا المصري دور بطولي في رد الهجمات البحرية الأولى.
**النصر المر**
في سبتمبر 1855، سقطت سيفاستوبول أخيراً.
كان النصر… مراً كالعلقم. آلاف الشهداء تحت الثلج، لكن الدولة العثمانية نجت، وتراجعت روسيا مهزومة.
في معاهدة باريس 1856، نالت القوات المصرية أرفع الأوسمة: من السلطان، من ملكة بريطانيا، من ملك سردينيا.
عاد الناجون إلى مصر أبطالاً، يحملون في صدورهم جرحاً لا يُرى، وفي أعينهم فخراً لا يُمحى.
**إرث الثلج*
سنوات مرت، ثم جاءت حروب أخرى: كريت، الصرب، الحرب الروسية العثمانية 1877… وكل مرة كانت مصر ترسل أبناءها بلا تردد.
لكن حرب القرم بقيت الأعظم في الذاكرة.
لأنها كانت المرة الأولى التي يقاتل فيها المصريون بعيداً عن واديهم، في ثلوج لم يعرفوها من قبل، دفاعاً عن أمة شاسعة تجمعهم بها راية واحدة، ودين واحد، ومصير واحد.
تلك هي قصة رجال من أرض الكنانة…
ذهبوا إلى القرم فتياناً، فعادوا أساطير.
وفي كل ليلة شتاء، لا تزال مصر تهمس لأبنائها:
«كان لنا يوماً رجالٌ صبروا على الثلج… حتى انتصر الربيع».



