العزلة التي يصنعها الشعراءُ للشعراءِ.. زكريا شيخ أحمد / سوريا
العزلة التي يصنعها الشعراءُ للشعراءِ : حين يصبح النصّ مرآة لا يطيقون النظر إليها
مقدمة
لا يخفى على أحد أن منصات التواصل الاجتماعي تحولت منذ سنوات إلى فضاءٍ للاستهلاك البصري أكثر من كونها مكاناً للقراءة.
في هذا الزحام باتت النصوص الجادة و الغنية تمر مرور العابر
بينما تحصد المنشورات السريعة خاصة حين تقترن بصورة جذابة تفاعلاً واسعاً حتى من غالبية الشعراء أنفسهم.
فالمنصّات اليوم تحكمها الصورة و تنتشر فيها الكلمات التي لا تحتاج قراءة عميقة و لا تأملاً .
النص العميق يحتاج قارئاً مستعداً للذهاب أبعد من السطح،
و هذا شرط نادر في فضاءٍ يفضّل السهل المباشر.
و مع طغيان ثقافة الصورة على ثقافة المعنى، أصبح التفاعل فعلاً اجتماعياً أكثر منه فعل قراءة؛ فلا غرابة أن يتراجع الاهتمام بالنصوص الرفيعة خاصة حين توقظ في البعض شعوراً داخلياً بالمقارنة أو تضعهم أمام مرآة نقدية لا يريدون النظر إليها.
و هذه الظاهرة أي تجاهلُ النصوص الجادة لا يصنعها الجمهور وحده و أنما يشارك فيها كثير من الشعراء أيضاً .
فكلما ارتفع مستوى النص قلت الأصوات حوله؛ لا لأنه أقل جمالاً و لكن لأن قيمته تضع غيره أمام مسؤولية قراءة لا يرغبون في خوضها.
و هكذا يجد النص القوي نفسه في مساحة أكثر هدوءاً ،
و مساحة الصمت هذه هي ما يبدأ منه موضوع هذا المقال :
– في المشهد الأدبي اليوم يختبر الشعراء الحقيقيون ظاهرة نادراً ما يفصحون عنها:
ذلك البعد الذي يزداد من حولهم عندما ترتقي نصوصهم إلى مستوى لا يريح محيطهم.
إنه على الأرجح ليس خلافاً شخصياً بل آلية دفاع يلجأ إليها كثير من الأصدقاء الشعراء عندما يشعرون بأن النص القريب منهم بدأ يتقدم خطوة أمامهم.
يحدث الأمر بلا ضجيج.
يكتب شاعر نصاً ناضجاً فيشعر البعض بالخطر لا بشكل واعٍ، و إنما بإحساس داخلي يقول:
إن علّقتُ سيبدو هو أعلى و إن اقتربتُ ستضعني المقارنة في موضع لا أريده.
و أبعد من ذلك يتعمد القائمون على المنصات الأدبية تجاهل النصوص العالية و الغنية
و مع مرور الوقت، تتراجع التعليقات، تقلّ علامات الإعجاب و يبتعد الذين كانوا يحيطونه بالكلمات الدافئة.
و لأن التراجع يأتي تدريجياً يظنه الكاتب صدفة… قبل أن يدرك أنه ليس كذلك.
– الخوف من المقارنة: جوهر الأزمة
الشاعر بطبيعته كائن شفاف يرى في النصّ مرآة تكشف ما يخفيه.
و عندما يواجه نصاً قوياً صادراً من صديق قريب يشعر بأن تلك المرآة أصبحت قريبة حدّ الإحراج.
فالاعتراف بتفوق صديق نصياً يشبه الهزيمة الداخلية لدى البعض خاصة أولئك الذين بُني حضورهم على تصفيق الآخرين لا على ثقة الذات.
هنا تبدأ آلية الدفاع القديمة ( التجاهل )
ربما ليس رغبة في الأذى و إنما محاولة لحماية الصورة أمام النفس و أمام الآخرين.
فيتجنب البعض الإعجاب و يبتعد عن التعليق و يتراجع عن المشاركة، كأن وجود النص القوي وحده يهدد منطقة اعتادوا الشعور فيها بالارتياح.
– العلاقة بين الشعراء… حين تتم اختبارها بالمستوى
الغريب أن هذا التجاهل لا يحدث أمام النصوص الضعيفة و إنما أمام تلك التي توقظ سؤالاً داخلياً :
لماذا لا أكتب أنا هكذا؟
و هذا السؤال وحده كافٍ لخلق مسافة لا تقال، و يكتفى بها بدل مواجهة الذات و المستوى.
بدل الاقتراب بشجاعة يختار البعض الابتعاد.
فالنص القوي يكشف ضعف نصوصهم، ليس بقصد الإحراج و أنما بمعناه الفني الذي لا يعرف المجاملة.
– حساسية الشعراء… و صمتهم
دوائر الشعر تعيش عادة على توازن خفي…
كل شاعر يعرف مكانه في المجموعة، يعرف من يسبقه و من يسايره و من يأتي بعده.
لكن حين يكسر أحدهم هذا التوازن و يرتفع فوق السقف المألوف، يشعر الآخرون بأن الأرض تحركت تحت أقدامهم قليلاً .
فيبتعدون، يصمتون و يتركون صاحب النص القوي في مساحة يظنها جفاء… بينما هي في الواقع اعتراف غير معلن بقوته.
– العزلة ليست ضعفاً … بل علامة
يمرّ الشاعر أحياناً بفترات يظن فيها أن أصدقاءه ابتعدوا أو أن نصوصه فقدت قدرتها على الجذب.
لكن الحقيقة أن هذا الابتعاد ليس دليل انطفاء… بل دليل قوّة.
إنها اللحظة التي تسبق الاعتراف الحقيقي، حين يضطر الآخرون عاجلاً أم آجلاً إلى مواجهة النص الذي حاولوا الابتعاد عنه طويلاً .
– النهضة الإبداعية تبدأ هكذا
كل شاعر قوي يمر بهذه المرحلة.
كل كاتب يترقى يخسر شيئاً من دوائره القديمة، لا لأنه تغير و لكن لأن نصوصه تغيرت و معها تغيرت نظرة الآخرين إليه.
و العجيب أن هذه المسافة رغم ألمها هي ما يصنع الكاتب الحقيقي:
لحظة الانفصال عن دوائر التشابه
و لحظة الدخول في فضاء الكتابة الحرة
و لحظة النضج التي لا يشاركها إلا من وصل إلى ذاته كاملة.
ليست هذه نهاية العلاقة مع الشعراء…
إنها بداية العلاقة مع الكتابة نفسها.
فالعزلة التي يفرضها الآخرون، تصبح في النهاية المساحة التي ينمو فيها الكاتب
و يمتد فيها صوته… بعيداً عن انتظار تصفيق أحد .









