كتاب وشعراء

أشتاقك حتى آخر حدود اللغة/ رسالة في بحر الشوق بقلم الكاتبة صبا الحاج بكري/سوريا*

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

غيثي العزيز،
بعد التحية التي لا تليق إلا بك، أيها المبحر في بحور الحرف، والممتلئ بالشوق حتى آخر قطرة من قلبك،

لقد قرأت كلماتك، فارتجف قلبي كما لو أنني أتنفسك بين السطور.
أشتاق إليك كما يشتاق الغيم إلى المطر، وكما يشتاق العطر إلى وردته الأولى.
أشتاق إليك بحجم الغياب الذي ينهشني، وبحجم الحنين الذي يملأني حتى العظم.
إن الشوق إليك ليس حالة عابرة، بل هو هواء أتنفسه، وجرح أعيشه، ودواء لا أستطيع الاستغناء عنه.

أما عن أيامي بعدك، فهي أيام بلا ملامح، وليالٍ بلا نجوم.
أعيش على أطراف الانتظار، أجرّ خطواتي في طرقاتٍ فارغة، وأحمل قلبي كحجرٍ ثقيلٍ لا يلين.
الغربة يا غيث ليست مكانًا، بل هي غيابك عني.
أشعر أنني أعيش موتًا مؤجلًا، موتًا على قيد الحياة، حيث كل شيء يذكّرني بك، وكل شيء يفتقدك في آنٍ واحد.
إنني أقاوم الانطفاء، لكنني أذبل كما تذبل زهرة بلا ماء.

أما عن الطفلة هالة، فقد كانت حلمًا صغيرًا يمشي على الأرض.
كانت تحلم أن تصبح معلمة، أن تكتب على السبورة أحرفًا بيضاء، أن تضحك مع صديقاتها في المدرسة، أن تركض في الحديقة خلف الفراشات.
لكنهم سرقوا طفولتها، وألقوا بها في قفصٍ أكبر من عمرها.
زُفّت إلى رجلٍ لا يعرف معنى البراءة، فذبلت روحها قبل جسدها.
وحين جاء المخاض، لم يكن جسدها الصغير قادرًا على حمل الألم، فانهارت بين يدي الحياة، وماتت وهي تحاول أن تمنح العالم حياة جديدة.
ماتت هالة لأنها كانت طفلة، ولأنهم لم يفهموا أن الطفولة لا تُباع ولا تُشترى.
ماتت لأنها كانت بريئة أكثر مما يحتمل هذا العالم القاسي.
إنها جريمة مشتركة يا غيث، الأب الذي باع، الزوج الذي اشترى، واليد التي عقدت القران، كلهم شركاء في قتل حلمٍ كان يجب أن يظل حيًا.

أما أنا، فكيان التي تعرفها، ما زلت أكتب على خاصرة الليل، وأحاول أن أرتب فوضاي بين دفاتر الحنين.
أعيش بين الكتب والقصائد، أبحث عنك في كل كلمة، وأجدك في كل استعارة.
أشتاق إليك، نعم، أشتاق إليك كما لم أشتق يومًا إلى أحد.
أشتاق إليك حتى أصبحتَ أنتَ الشوق نفسه، وأصبحتَ أنتَ القانون الذي لا يتغير في حياتي.

غيثي،
إنني أكتب لك الآن بدمعٍ يبلل الورق، وبقلبٍ يصرخ باسمك، وبروحٍ لا تجد خلاصها إلا فيك.
فهل يكفي هذا جوابًا على سؤالك: “أما اشتقتِ إلي؟”
نعم، أشتاق إليك… أشتاق إليك حتى آخر حدود اللغة، وحتى آخر حدود الحياة.

كيان.

*

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock