حسام السيسي يكتب :من الكُرة إلى البرلمان: حين تتحوّل الانتخابات في مصر إلى “ديربي” بلا سياسة

في أحد الريلز الانتخابية العشوائية على مواقع التواصل، ظهر رجل من أنصار مرشّح يبدو أن اسمه شمس، وهو يعلن بفخر: «أنا شمساوي قديم». الجملة بدت في ظاهرها دعابة انتخابية، لكنها في حقيقتها تكشف التحوّل العميق الذي أصاب المجال السياسي في مصر؛ إذ لم يعد الانتماء لمرشح فعلًا سياسيًا واعيًا، بل أصبح أقرب إلى تشجيع نادٍ كروي. هنا لا يُسأل الناخب عن برنامج أو موقف أو مشروع، بل عن “الهويّة” التي ينتمي إليها؛ تمامًا كما يفعل المشجّع وهو يرفع شعار فريقه.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل خلاصة سنوات طويلة من تجريف الوعي السياسي وغياب العمل الحزبي الحقيقي. ومع تفريغ الحياة العامة من السياسة، صار المواطن يتعامل مع الانتخابات بمنطق الألتراس: “أنا شمساوي”، “أنا بتاع فلان”، “إحنا دايمًا مع الراجل ده”. وهكذا تحوّلت المنافسة الانتخابية من صراع برامج إلى مباراة بين أسماء، ومن اختبار للكفاءة إلى ديربي شعبي تحكمه العواطف ويغذّيه الضجيج.
يحدث هذا بالتوازي مع استخدام واسع النطاق لأدوات الإلهاء التي أثبتت فاعليتها في المجال الرياضي: شعارات جوفاء، هتافات متكررة، استعراضات قاعدية، “ألتراس انتخابي”، ومعارك مصطنعة بين أنصار المرشحين. أدوات صناعة الجمهور في الملاعب يجري تدويرها بحرفية داخل العملية الانتخابية، ليس بهدف إشراك المواطنين في السياسة، بل لصناعة جمهور بديل عن الناخب؛ جمهور يصفّق ولا يناقش، يتحمّس ولا يسائل، يتماهى مع “فريقه” دون أن يعرف طبيعة المباراة أصلًا.
وهكذا تتعزز حالة الفراغ السياسي: أحزاب بلا دور، مرشحون بلا مشروع، وبرلمان بلا سلطة رقابية حقيقية. لم يعد الأمر مجرد ضعف في الثقافة السياسية، بل انهيار كامل لفكرة السياسة نفسها. النظام السياسي لا يريد تداولًا فعليًا للسلطة، لكنه بحاجة إلى واجهة برلمانية تمنحه شكلًا من أشكال الشرعية الديمقراطية. وفي ظل غياب التنافس الحقيقي، يصبح البرلمان مؤسسة تابعة؛ يصدر عنه الكلام لكنه لا يملك القرار، يشرعن بدل أن يشرّع، يصفّق أكثر مما يراقب. ومع كل دورة انتخابية، يتضح أن العملية كلها تحوّلت إلى أداء مسرحي، يُعاد إنتاجه بلا هدف سوى الحفاظ على المشهد قائمًا.
هذا الواقع لا يدمّر اللحظة الراهنة فقط، بل ينسف المستقبل كذلك. فحين تتحول السياسة إلى تشجيع، ويُختزل الاختيار في “مع فلان أو ضده”، يصبح المجتمع بلا ذاكرة سياسية، وبلا إمكانية لبناء وعي أو ممارسة ديمقراطية قادرة على التطوّر. إعادة بناء ما هُدم تحتاج عقودًا أو أجيالًا كاملة: إعادة بناء الثقة، والأحزاب، والثقافة المشاركة، وفكرة المواطن نفسه باعتباره طرفًا فاعلًا لا مجرد متفرّج.
لذلك، لم تكن عبارة “شمساوي قديم” دعابة بريئة؛ كانت تلخيصًا مكثفًا لمسار طويل من تحويل السياسة إلى ملعب، والانتخابات إلى ديربي، والدولة إلى ديكور يُعاد طلاؤه كل موسم. إنها لحظة تُظهر كيف انتقلنا من مفهوم الناخب إلى مفهوم المشجع، ومن السياسة كإدارة للمصالح العامة، إلى السياسة كاستعراض جماهيري بلا مضمون. ومن هذه النقطة تحديدًا يبدأ الانهيار الحقيقي للمؤسسة السياسية، لا بوصفها سلطة، بل بوصفها فكرة.
فالسلطة التنفيذية التي تؤمن حقًا بمبدأ تداول السلطة لا يمكن أن تعمل في فراغ أو في ظل برلمان مُهندس مسبقًا؛ بل تحتاج إلى سلطة تشريعية مستقلة تمتلك القدرة على الرقابة وصناعة القوانين، وتحتاج قبل ذلك إلى ناخبين واعين قادرين على التفريق بين الانتماء العاطفي الذي يشبه تشجيع الأندية، وبين الاختيار العقلاني الذي يُبنى على رؤية ومصلحة عامة. وما نعيشه اليوم قد لا يكون نهاية التاريخ السياسي في مصر، بل مرحلة من مراحل التحلّل التي تسبق إعادة البناء. فالأجيال القادمة — مهما طال الزمن — ستراكم خبرتها السياسية، وتتعلم من الأخطاء، وتعيد تشكيل آليات المشاركة بطريقة أكثر نضجًا وعقلانية، حين تصبح السياسة مرة أخرى شأنًا عامًا لا هتافًا موسميًا ولا جمهورًا يُستدعى وقت الحاجة.









