مِن كيان إلى غيث// بقلم المبدعة//: فاطمة كعدة

غيثي يا رجلاً لو مرَّ اسمه على صحراءٍ لانخضعت ولو مرَّ على نهرٍ لارتوى ولو مرّ على قلبي لاهتزّت له القارات الخفية في داخلي، يا مَن إذا ذكرتُه تهدّلت نجوم الليل كأنها تتقرب وإذا غاب انخلع من صدري وترُ الحياة الوحيد، وصلتني رسالتك لا كغائب يعود بل كقيامةٍ تقوم داخل صدري كزلزالٍ يجرّح الذاكرة كريحٍ تكسر الأبواب المغلقة في روحي منذ رحيلك قرأتها فشعرت أن حروفك ليست كلمات بل سكاكين شوق تشقّ حزني نصفين وأنفاسٌ حارّةٌ تكتب على جلدي عودتك وشراراتٌ تتطاير من كل فاصلةٍ ونقطة، تقول إنك اشتقت؟
غيث أنت تشتاق كإنسان وأنا أشتاقك ككوكبٍ فقد جاذبيته كشجرةٍ تُسقى بالشمس ولا ترتوي إلا بقمرها كعينٍ لا ترى إلّا حين تبكيك كقلبٍ لا ينبض إلا إذا طُعِن باسمك، شوقي إليك أشبه بطاعونٍ مقدّس وبعاصفةٍ تُغرق البحر وبرعدٍ يضجّ في جمجمتي كلما نطقتُ اسمك، غيث يا منفايَ الجميل ووطني الموجوع
غربتك؟
أنا أعرفها أراهَا في وجهك بين السطور كأنك تحمِل قارةً كاملة فوق كتفيك وتهرب من زوبعتها كي لا تجرحني، تعرف ما معنى أن تكون بعيداً؟ أن تعيش أنا، أن تستيقظ بنصفِ شمس وتنام بنصف روح وتخطو بحذاءٍ واحدٍ في طريقٍ طويلةٍ لا تنتهي، أنا منذ رحلت لم أعد امرأة كاملة صرتُ نصف ظلّ، نصف نبض، نصف صبر، نصف صراخ يتيم، أعيش كأنني حقلٌ محترق لا ينمو فيه شيءٌ إلا اسمك ولا يموت فيه شيءٌ إلا صبري عليك، الغربة يا غيث لا تنفي الأجساد فقط بل تنفي أرواح الذين ينتظرون، وأنا منذ رحلت أجلسُ كل ليلة على حافة قلقي أعدُّ نبضات قلبي وأقول: “واحدة لك واحدة عليك واحدة تنتظر عودتك.”
أما هالة فاسمعني يا غيث بصدرٍ لا يحتمل لأن ما سأقوله الآن ليس حكاية بل عويل طفلةٍ ماتت قبل أن تتعلم لفظ كلمة “حياة”، هالة كانت نُقطة ضوء تمشي ريحانَةٌ صغيرة لو وضعتَها في الريح لذاب النسيم خجلاً، كانت البسمة المرفوعة على خدّ الصباح، كانت زقزقة مضيئة، كانت زهرةً تتعثّر بقدميها الصغيرة ولا تسقط إلا على صدر أمّها، كانت تحلم أن ترسم جناحين وأن تكبر لتصبح نافذةً مفتوحة على العالم، لكنهم أغلقوا النافذة عليها وأغلقوا العالم وأغلقوا الباب وسلّموها لرجلٍ أكبر من الليل بعشرين سنة، ليلة زفافها لم تكن حفلة إنما كانت مذبحة طفولة، كانت جثة حلمٍ تُزَفُّ لسريرٍ بارد، عادَت فجراً وجهها منطفئٌ كشمعةٍ نُفِخ عليها وصوتها مشقوق كأن أحداً جرّحه بحدِّ ليلٍ طويل قالت لأمّها: “في صدري شيء انكسر شيء لا أعرف اسمه لكنه مات.”، لكنهم لم يسمعوا موتها لا وأعادوها إلى الجريمة إلى رجلٍ لا يعرف أن الطفلة ليست زوجة وأن البنت ليست سلعة وأن الأنثى لا تهدى بل تُحمى، كبر بطنها وكلما كبر صغرت روحها وذبلت ضحكتها وخارت ركبتاها كأن الطفولة تُسحب منها بشوكةٍ صدئة، وفي ليلة المخاض كان الألم أكبر من جسدها والصرخة أوسع من حنجرتها والقهر أعمق من رحمها، نزفت، ونزفت، ونزفت حتى لم يبقَ فيها إلا آخر رمقٍ حاول أن يقول: “أنا طفلة دعوني أعيش!”، لكن أحداً لم يفهم لغتها فسقط الجنين ميتاً وسقطت هي فوقه وسقط العالم كله حولها ولم يسقط عنها، ماتت هالة وماتت معها أمّها عشرين مرة وبقي الأب واقفاً يحمل جثته الحية وجريمته التي لن يغسلها ماءُ الأرض، الجميع قاتل يا غيث الجميع قاتل، الزوج، الأب، شيخ العقد، صمت الجيران، والعاداتُ التي تلوك لحم الصغيرات وتمضغه.
غيثي آخر الحرف نعم اشتقت، لكن اشتياقي لك ليس شوق امرأة لرجل بل شوق قارةٍ لبحرها وشوق سماءٍ لنجمها وشوق جرحٍ لإصبعه الذي يضغط عليه كي لا ينزف، تعال يا غيث فثمة عاصفة تستيقظ كل ليلة باسْمِك وثمة قلبٌ يصرخ كما يصرخ الوتر إن لمسه العازف الذي يعرفه وثمة روحٌ لا تُشفى إلا حين تضع يدك عليها.
تعال قبل أن يتحول الصبر إلى رماد والليل إلى مقبرة والشوق إلى مرضٍ لا يفهمه الطبّ ولا الشعر.
تعال فأنا امرأةٌ لا يُكملها إلاك ولا يمنحها شكلها إلا ظلّك ولا يُعيد إليها صوتها إلا رجوعك.
✍️









