رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :ممارسة الاذلال كمتعة

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

ــ ” إن الانسان المُذَل من آخر الذي جعل منه حيواناً، لا يستطيع قطع الطريق، عائداً، إلى ما قبل الإذلال؟” * الروائية الألمانية كريستا فولف.
ما الذي يجعل ضحية متسلطة متسيدة تتحول الى جلاد للتنفيس عن ذل معتق وعار داخلي مع ان التعويض الحقيقي في بناء العدالة؟
يقول المفكر والروائي فرانز فانون:
” الضحية تبحث عن ضحية وضحية هالكة وضعيفة لأن جلادها الأول زرع فيها الجبن من القوي،
لكنها تختار ضحية مشرفة على الهلاك في أقذر سلوك إنتقائي بشري
للتنفيس عن عار داخلي وترحيل عقدة الشعور بالدونية على آخرين”.
أي ان الضحية المتسلطة لم تعد قادرة على قطع طريق العودة بعد سنوات الاذلال التي شوهت البشري فيها وزرعت المنتقم الاعمى وعمل جلادها السابق على احداث تغييرات وجودية عميقة في نظرتها لنفسها وللحياة وحتى التحرر السياسي من سلطة جلادها ، سواء كان نظاماً أم جماعة أم فرداً، لكن التحرر الداخلي أمر صعب جداً بعد برمجة عصبية لسنوات وقواعد حياة وعادات ترسخت بالتكرار وتداخلت مع طقوس وعادات الحياة اليومية،
لكن التحرر الداخلي ليس مستحيلاً بالارادة ونظام ثقافي بديل والمحاولة لأن الجلاد الأول تحول من نظام أو بشر الى كائن داخلي يضبط الحدود والمسموح وغير المسموح وهذا الكائن السري لا يُرى لكنه هاجس داخلي عنيف. أي ان السلطة تخلق في الأقل ثلاث شخصيات في الفرد وفي حالات عشرات الشخصيات:
شخصية علنية مزيفة للتحاشي وشخصية سرية تفكر وتفعل عكس الأولى وشخصية ثالثة قادرة على تقمص ولعب كل الادوار حسب الاشخاص والمناسبات وتعطي انطباعات مختلفة لكل فرد والعلاقة مع هذا النوع مرهقة بل مدمرة لان عليك ان تتعلم كل لحظة ان ترقص معها بطريقة مختلفة ومبادئ مختلفة ولغة مختلفة والخ. كل واحدة من هذه الشخصيات لها لغة خاصة واهداف خاصة وقواعد خاصة وتتنقل بين هذه الشخصيات بسلاسة كما تتنقل في غرف المنزل.
يقول فانون أيضا وهو طبيب نفساني:
” راقبت القرود في الأقفاص ولاحظت أن القرد الكبير عندما يريد إرسال رسالة قوة للقرد الخصم، يقوم بالتنكيل بقرد صغير ضعيف ومع الوقت يدير القرد الصغير مؤخرته للقرد الكبير من الذعر”.
أي يتحول الاستسلام الى حل فردي لكن الشعوب تقوم بالعملية نفسها لكن بطرق مختلفة. أي أيضا تستسلم من الخوف وتتبرع بمصيرها كله مقابل البقاء حية. هذه الظاهرة موجودة في السجون أيضاً خاصة اذا تواجد عدد من الشقاوات ـــــــــــ الفتوة ـــــ في سجن ، فيجب أن يفرض واحد سيطرته على الجميع عن طريق التنكيل بالسجناء الصغار أو الضعاف وشاهدت ذلك بنفسي. ممارسة السلطة متعة كما قال دوستوفسكي:
” “السلطة المطلقة التي لا حدود لها، هي نوع من المتعة ولو كانت هذه السلطة على ذبابة”.
يأتي الاذلال مقرونا بالابتذال وشبكة مشاعر منحرفة وكما قال الفيلسوف الالماني مارتن هيدغر في ان الانسان عندما يصل مرحلة الابتذال،
لا يعود يميز بين الحياة الحقيقية ، الوجود الأصيل، والوجود الزائف،
لأن الإبتذال كمنظار مغبر ومشوه وبنية نفسية محطمة لا يمكن من خلالها رؤية حديقة مشرقة او وجود نظيف او علاقة نقية وكيف يمكن رؤية الوجه في مرآة محطمة؟
الذليل يمارس السلطة كمتعة وتعويض عن دونية عميقة وعن جبن راسخ.
من الغرائب ان هذه الظاهرة المرضية برزت حتى في المنافي الاسكندنافية المفرطة في الحقوق الفردية بين الفارين وظهرت لنا شريحة متحكمة تمارس الوصاية والفوقية والتقييم حسب معايير سخيفة منقرضة وتميل جماعات حزبية الى السيطرة على المنفيين بطرق مختلفة ومنها الوصاية وذهنية الوصم والعزل والاقصاء والعنف اللغوي والتشهير ولا ينقصهم غير السجون بحيث يتحول المنفى الى منافي عدة ولدى متابعة هذه الظاهرة قبل الاحتلال الامريكي في دول عدة تأكد لنا ان هؤلاء سيعيدون انتاج النظام الدكتاتوري نفسه بطلاء جديد وهذا ما حدث وكما جاء في روايتنا” سنوات الحريق” الصادرة عام 2000:
” اذا كنتم تمثلون المستقبل، فستكون جلودنا أحذية” وهذا ما حدث لان المستقبل ليس غيباً بل كيف نفكر ونحلم ونعمل، الآن.
لكن ما هو مثير للحيرة أن هؤلاء الضحايا في المنافي لا يقتربون في فرض سلطتهم على الأجنبي كما تفعل قرود فرانز فانون في الاقفاص بتحاشي القرود القوية، نتيجة جبن عميق وخوف من القوة لكنهم يفرضونها على أبناء جلدتهم العزل وهو أقذر سلوك انتقائي سيمارسونه عند استلام السلطة: انتقاء ضحية ضعيفة لا حول ولا قوة لها وتحاشي ضحية قوية بسبب جبن عميق الجذور.
في كل تحولات التاريخ عندما تنهار سلطة وتأتي أخرى، ولم تتجه السلطة الجديدة نحو بناء المؤسسات الديمقراطية وهيمنة العدالة، تتجه نحو الظلم والدكتاتورية ويقوم ضحايا الأمس بالتنكيل بضحايا اليوم في تبادل أدوار لا ينتهي.
وكما هو منطق فانون، لا تقترب ضحية متسيدة في سلطة من ضحية قوية لأن جلادها الأول زرع فيها الجبن من القوي،
لذلك تبحث عن ضحية ضعيفة عزلاء للتعويض عن دونية خفية، بأساليب أقذر من أساليب جلادها الأول،
لأنها تعرف معنى ومكان الألم والوجع وتعرف كيف وأين تضرب ولأن الضحية المتسيدة تتماهى مع جلادها إما عن إعجاب خفي أو حقد
أو تقليد حسب فرويد او تقليد الغالب للمغلوب حسب ابن خلدون.
الضحية المتسيدة المتسلطة تحتاج الى إستعراض قوة زائفة وتحتاج الى شهود وجمهور لخداع النفس،
لكن الشجاع لا يحتاج إلى إستعراض ولا الى شهود والى مسرح،
لأن الشجاعة تشع على الوجه كنور داخلي مضيء، والشجاع واثق من نفسه ولا يذل ضحيته ولو كانت عدواً لأنه يفصل بين الخصومة وبين الكرامة الانسانية التي لا تمس لذلك قال الحكماء البسطاء:
” ولية سبع ولا ولية بعر” أي تقع في يد عدو شجاع أفضل من عدو جبان لأن هذا يحتاج الى تعويض والى استعراض للتخلص من جبن ومن عار داخلي بالتفاخر والتباهي ويمارس الاذلال كمتعة.
كان العرب القدامى ينصحون” لا تؤانس الذليل” لا تمازحه ولا تقترب منه لانه يحترم من يحتقره ويحتقر من يحترمه وهذا واضح في تجاربنا في الحياة اليومية وكمثال بعض الذين يدخلون بريد الصفحة بلا تعارف مسبق واتعامل معهم بلطف وعفوية لا يعودون الدخول الى الصفحة كما لو ان
الاحترام عرضهم لصدمة كثروة هائلة غير متوقعة هبطت على شحاذ والذليل لا يتوقع الاحترام ولو حصل عليه سيختل توازنه. احترام الذليل يغريه بالتجاوز للتعويض عن عار داخلي راسخ وجارح.
ممازحة الذليل كالوقوع في حفرة نجسة في الظلام. من علامات الذليل الضعف والحاجة الى الاتكاء والخضوع وعدم ثبات المواقف والاحاسيس لانه فاقد السيطرة على نفسه وتحركه ذات مزيفة محطمة تأخذ شكل المكان والوسط الذي تتواجد فيه لانه بلا هوية شخصية ووعاء فارغ يمتلئ من الخارج بالتمادح والناس عنده كمحطة وقود. كائن مستنزف للطاقة ويعيش الحياة كعقاب مستمر.
ممارسة الاذلال من أي مصدر وعلى أي صورة ليس شعورا عابرا بل هو في الجوهر عقدة الدونية Inferiority complex التي تعبر عن نفسها بطرق ملتوية لان الذل ليس مرضا نفسيا لكي يعالج بل هو عبارة عن انحطاط جوهري وكلي في البنية الجوهرية للشخصية.
الشجاع لا يحتاج الى شهود ولا جمهور ولا استعراض لان الشجاعة تضيء الوجه بملامح هادئة مطمئنة كوجه رضيع نائم ولو كان عدواً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock