معركة القصر الكبير

أراد ملك البرتغال الشاب محو ما وصم به عرش البرتغال خلال فترة حكم أبيه من الضعف والتخاذل، كما أراد أن يعلي شأنه بين ملوك أوروبا فجاءته الفرصة باستنصار المتوكل به على عميه وبن جلدته، مقابل أن يتنازل له عن جميع شواطئ المغرب.
استعان سبستيان بخاله ملك أسبانيا فأمده بعشرين ألفاً من عسكر الأسبان ، وكان سبستيان قد عبأ معه اثني عشر ألفاً من البرتغال ، كما أرسل إليه الطليان ثلاثة آلاف ، ومثلها من الألمان وغيرهم عددا ًكثيراً ، وبعث إليه البابا بأربعة آلاف أخرى ، وبألف وخمس مائة من الخيل ، واثني عشر مدفعا ً، وجمع سبستيان نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع إلى شاطئ المغرب الإسلامي.
أبحرت السفن الصليبية من ميناء لشبونة باتجاه المغرب يوم 24 يونيو 1578م حتي رست بطنجة ، وفيها لقي سبستيان حليفه المتوكل ، ثم تابعت السفن سيرها إلى أصيلا ، وأقام سبستيان بطنجة يوماً واحداً ، ثم لحق بجيشه
كانت الصرخة في كل أنحاء المغرب الإسلامي: أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله
فتجمعت الجموع الشعبية وتشوقت للنصر أو الشهادة وأرسل عبدالملك سلطان المغرب الإسلامي إلي الدولة العثمانية في ولاية الجزائر يستنصرها فبعثت له بالعون والمدد
وكتب عبد الملك إلي العدو الصليبي:
“من مراكش إلى سبستيان إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك، وجوازك العدوة ، فإن ثبت إلى أن نقدم عليك ، فأنت نصراني حقيقي شجاع ، وإلا فأنت كلب بن كلب”
فلما بلغه الكتاب غضب واستشار أصحابه فأشاروا عليه أن يتقدم ، ويملك تطاوين والعرائش والقصر ، ويجمع ما فيها من العدة ويتقوى بما فيها من الذخائر ، ولكن سبستيان تريث رغم إشارة رجاله
وكتب عبد الملك إلى أخيه أحمد أن يخرج بجند فاس وما حولها ويتهيأ للقتال ، وهكذا سار أهل مراكش وجنوبي المغرب بقيادة عبد الملك وسار أخوه أحمد بأهل فاس وما حولها ، وكان اللقاء قرب محلة القصر الكبير.
الجيش البرتغالي 125000 مقاتل وما يلزمهم من المعدات ، وأقل ما قيل في عددهم ثمانون ألفاً ، وكان منهم 20000 أسباني ،3000 ألماني ، 7000 إيطالي ، مع ألوف الخيل ، وأكثر من أربعين مدفعاً ، بقيادة الملك الشاب سبستيان ، وكان معهم المتوكل بشرذمة تتراوح ما بين 300-6000 على الأكثر .
الجيش الإسلامي : بقيادة عبد الملك المعتصم بالله ، المغاربة المسلمون 40000 مجاهد ، يملكون تفوقاً في الخيل ، مدافعهم أربعة وثلاثون مدفعاً فقط
اختار عبد الملك القصر الكبير مقراً لقيادته ، وخصص من يراقب سبستيان وجيشه بدقة ، ثم كتب إلى سبستيان مستدرجاً له : “إني قد قطعت للمجيء إليك ست عشرة مرحلة ، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي”
فنصحه الخائن المتوكل ورجاله أن لا يترك أصيلا الساحلية ليبقى على اتصال بالمؤن والعتاد والبحر ، ولكنه رفض النصيحة فتحرك قاصدا ًالقصر الكبير حتى وصل جسر وادي المخازن حيث خيم قبالة الجيش الإسلامي
وفي جنح الليل أمر عبد الملك أخاه أحمد المنصور في كتيبة من الجيش أن ينسف قنطرة جسر وادي المخازن ، فالوادي لا معبر له سوى هذه القنطرة
وتواجه الجيشان بالمدفعيتين ، وبعدهما الرماة المشاة ، وعلى المجنبتين الفرسان ، ولدى الجيش المسلم قوى شعبية متطوعة بالإضافة لكوكبة احتياطية من الفرسان ستنقض في الوقت المناسب .
في صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ الموافق 4 أغسطس 1578م وقف السلطان عبد الملك يحرض الجيش على القتال ، ولم يأل القسس والرهبان جهداً في إثارة حماس جند أوروبا مذكرين أن البابا أحل من الأوزار والخطايا أرواح من يلقون حتفهم في هذه الحروب .
وانطلقت عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذاناً ببدء المعركة ، وبرغم تدهور صحة السلطان عبد الملك الذي رافقه المرض وهو في طريقه من مراكش إلى القصر الكبير خرج بنفسه ليرد الهجوم الأول ، ولكن المرض غالبه فغلبه فعاد إلى محفته، وما هي إلا لحظات حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ، ومات وهو واضع سبابته على فمه مشيراً أن يكتموا الأمر حتى يتم النصر ، فلم يطلع على وفاته إلا حاجبه وأخوه أحمد المنصور
وصار حاجبه يقول للجند : )السلطان يأمر فلاناً أن يذهب إلى موضع كذا ، وفلاناً أن يلزم الراية ، وفلاناً يتقدم ، وفلاناً يتأخر(
ومال أحمد المنصور بمقدمة الجيش على مؤخرة البرتغاليين وأوقدت النار في بارود البرتغاليين ، واتجهت موجة مهاجمة ضد رماتهم أيضاً فلم يقف البرتغاليون لقوة الصدمة ، فتهالك قسم منهم صرعى ، وولى الباقون الأدبار قاصدين قنطرة نهر وادي المخازن ، فإذا هي أثر بعد عين ، نسفها المسلمون ، فارتموا بالنهر ، فغرق من غرق ، وأسر من أسر ، وقتل من قتل .
وصرع سبستيان وألوف من حوله، وحاول المتوكل الخائن الفرار شمالاً فوقع غريقاً في نهر وادي المخازن، ووجدت جثته طافية على الماء ، فسلخ وملئ تبناً وطيف به في أرجاء المغرب حتى تمزق وتفسخ .
دامت المعركة أربع ساعات وثلث الساعة لقي في هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد الملك وسباستيان والمتوكل؛ ولذا عرفت بمعركة الملوك الثلاثة، وفقدت البرتغال في هذه الساعات ملكها وجيشها ورجال دولتها، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد.






