لحظة ضعف … بقلم جمال الدين خنفري

دخلت المحلَّ التجاري بخطًى مترددة، تتلفّت حولها في وجلٍ كأنها تَخشى أن يراها أَحد. جالت بِبصرها بين السّلع المعروضةِ، وتوقفت أمام رُكنٍ للحلوى. هفت نفسها إليها، واشتعل في داخلها صراعٌ بين الحاجةِ والحياءِ.
وفي غمرةٍ من ضُعفٍ عابرٍ، امتدَّت يدها المرتجفة، تناولت علبة صغيرة، وأخفتها تحت سترتها، ثم أسرعت نحو الباب.
لكن قبل أن تخطو خارج المكان، أوقفها صوتٌ حادٌّ، وقد كشفتها الكاميرا المثبتة عند المدخل.
ارتبكت، تجمّدت في مكانها، وتهدّجت أنفاسها وهي تُحاول تَبْريرَ ما لا يُبرَّر.
تقدّم رجلٌ طويلُ القامةِ، عريضُ المنكبين، وجهه مستديرٌ تلوّنهُ حمرةُ واضحةٌ، عيناه ضيقتان تتوهّجان ببريقٍ حادٍّ يوحي بنظرةٍ ثاقبةٍ.
شهد الموقف، فاستأذن البائع ودفع ثمن ما أخذت، ثم التفت إليها بصوتٍ هادئٍ يختلط فيه العَطفُ بالعَتَب:
ـ ما الذي دفعك إلى هذا يا ابنتي؟
خفضت رأسها، وقالت بصوتٍ متهدّجٍ:
ـ لم أفعلها عن سوءٍ يا سيدي، ولكن الجوع قهرني، وأنا بلا عائلٍ و لا مورد رزق.
ساد صمتٌ عميقٌ، وأطرق الرجل يفكّر، كأن الكلمات انغرست في أعماقه. رقّ قلبه لحالها، وقال بلطفٍ:
ـ تعالي، ستكونين كابنتي، أضمّك إلى كنفٍ آمنٍ يقيك العوز والضياع.
لكنها أوجست منه خيفة، وتلعثمت في الرد:
ـ أشكرك يا سيدي، غير أني لا أستطيع ترك أختي، فهي كل ما أملك.
و ارتجف صوتها وهي تضيف:
ـ مات والدي في حادثٍ سير منذ عام تقريبا، وتبعته أمِّي بمرضٍ عضالٍ منذ أشهر قليلة فقط، ولم يبقَ لي في هذه الدنيا سوى أختٍ صغيرة نعيش معًا في كوخٍ قصديريٍّ نقتات مما يجود به الطيبون علينا من أهل الخير. نتقاسم اللقمة، أنا منها وهي مني، فكيف أتركها وحيدة؟
هنا أطرق الرجل مليًّا، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تخفي وراءها قرارًا نبيلًا، وقال بصوتٍ خافتٍ:
ـ كما تشائين يا ابنتي.
ومضى وهو يفكر في طريقةٍ يُعين بها الأختين دون أن تعرفا مَن وراء العَطاء.
و منذ ذلك اليوم عاهد الرجل نفسه ألّا يتخلى عنهما فكان يقدم لهما كل مساء يدَّ العون خُفية بما طاب من الطعام و بعض المال في سرية تامة.
لم تكن الفتاة تعلم أن الرجل الذي شهد لحظة ضعفها كان قد عاش هو الآخر لحظة قوةٍ في إنسانيته.








