كتاب وشعراء

أحلام مبتورة/ بقلم الكاتبة/ صفاء القاضي/ اليمن

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

كان أشعثُ الرأس، مُمُـزق الثياب،
كالمجانين تمـامـا بثياب رثـة وممزقـة،

اشواك تسكن قدماه
كما تسكن الشياطين في المنازل التي تخلو من ذكر الله،
رائحته ك رائحة جُثة متـعفـنة،
يأكل من بقايا الطعام من براميل القُمامة !

أتـت السيـدة (مارجيت) من كليـة اللغة فصادفته على قارعة الطريق،

ولأن قلبها حنون
تأثـرتْ لما يحصل لهذا الشاب،

اقتربت منه اكثر غير خائفة مما قد يلحقه بها ، سمعته يكلـم نفسـه بلغة إنجليزية طليقة وتارة يتكلم الإسبانيـة

تأثـرت من طريقـة نطقه للكلمات، وهو بهذه المنظر يُفتش في برميـل القمامة عن كِسرة خبز يسد رمق جوعـه

فجـأة..

اقتربتْ منه، أمسكتْ بيده،
ثم نظرتْ في ملامحهِ بتمعُّن، حدَّقتْ فيه، بدتْ وكأنها تريد التهام تفاصيله.
تناسَتْ مكانتها العالية، ومنظره الرثّ الذي يوحي وكأنّه من قطط الشوارع المتشرّدة.
نظر إليها بريبة، جفلتْ عيناه، سقط نظره إلى معصمه!
تساءل في نفسه بريبة، والخوف يرقص على شفتيه…
منذ متى لم يرَ أحدًا يقترب منه، يمسك بيديه، يراقب ما يفعل؟
حتى خُيِّل إليه أنّه ليس من البشر… إنّه مجرّد نكرةٍ قذفتْ بها حياةُ البؤس.

نطقتِ المعلمةُ بعد حدادٍ مع الصمت، سألته بصوتٍ أجشّ، وحشدٌ من الدموع يتبلور في ساحة عينيها:
— من أنت؟
أرادتْ بتساؤلها أن تنفي تصوّرات خيالها بأنّه ليس هو… لا، ليس مارتن!
كيف يعود الأموات؟ لقد رأتْ جثته المتفحّمة، التي أكلتها نيرانُ المشفى عندما تسبّبت حادثةٌ في حرقه…

وكأنّ عاصفةً هوجاءَ حدثتْ بعد سؤالها، أثارتْ في نفسه براكينَ من الذكريات العارمة،
التي لم يتبقَّ له منها إلا هي، من حياته.
ظلّ يردّد بصوتٍ خافت:
— من أنا؟!
— أنا أمواجٌ متلاطمة، أنا قاربٌ غارق، وجثثٌ تطفو في عباب البحر…
أنا صوتُ هديرِ المياه… أنا… وأنا…
فَضَّ يدَها من معصمه، وصرخ بهستيرية، ممسكًا برأسه:
— لقد رأيتُهم يتدافعون، يهربون من الموت… الأطفال، النساء، الرجال، والشباب…
لم أكن أنا من قتلتُها! لقد ابتلعتها الأمواج…
سمعتُها وهي تصرخ باسمي، تناديني، كانت ترفع يدها، شاخصةً بصرها تجاهي…
سقط على ركبتيه، وأجهش بالبكاء كطفلٍ صغير، يتحدّث بصوتٍ يوحي بأنّه فاقدٌ للعقل:

— لقد كانت “سارة”… عيناي التي لا أرى إلّا بهما.
هناك، في الجامعة، درسنا اللغات، ثم تزوّجنا، حتى نصبح روحًا واحدةً في جسدين.
أحببتُها كما لم أعرف الحبّ من قبل.
أصبحتُ معلّمًا مرموقًا بفضلها، واكتملتْ فرحتي حينما تكوّر في جسدها طفلُنا الأوّل.
اشترينا له الكثير من الملابس والألعاب، واخترنا اسمًا له…
ثم دوّى صوتُ انفجارٍ أضاء سماءَ المدينة.
كانت الحرب… الحرب التي أكلتِ الشجرَ والحجر، والتهمتِ البشر…

وهناك، على شاطئ البحر، هربنا… نعم، هربنا، أنا وسارة وطفلُنا الذي كانت تحمله…
ثم، هناك، في وسط المياه، قذف بنا القارب نحو الموت.
لقد كان هو… والحرب ضدّنا.
وأنا… أنا لم أكن أجرؤ على السباحة.
تعلّقتُ بالقارب… وركلني البحر… ولم أعد أتذكّر ما حصل لي.
أمّا هي… فلم أعد أراها.

تقدّم إليها بتوسُّل، وصوته يتقطّع، ودمعُه يسبق كلماتِه، قائلًا:
— أرجوكِ، أعيدي لي سارة… ابحثي لي عنها…
إنّها فتاةٌ جميلةٌ للحدّ الذي لا أستطيع وصفه…
أخبريها أنّني أسكن هنا، في هذا المكان… إنّه بيتي.
أترينه؟ كم يبدو جميلًا؟
يوجد به العديد من الكتب التي تحبّها، ولعبةٌ لطفلنا المنتظر…

وضعتْ مارجريت يديها على وجهها، ودخلتْ في نوبة بكاء.
لقد كان يشبه أخاها، الذي مرّ على وفاته سنوات في ورقة التاريخ، أما هي فتجدّد حزنُها على موته مع شمس كلّ صباح،
تتذكّر خذلانها له، حينما طلب مجيئها إلى المشفى ليعتذر عن آخر مشكلة حدثتْ بينهما،
ولكن استكبارها أغراها…

بكتْ على حال الرجل، الذي يبدو وكأنّه فاقدٌ للذاكرة…
كيف لم تُنصفه الحياة؟
كيف ألقته من بين أجمل الملابس، وبين الكتب والعيشة السعيدة في وطنه وعائلته،
إلى براميل القمامة، بملابسَ رثّة، في غربةٍ لا ترحم،
سلبتْ منه هويّته كإنسان..
أزاحتْ يديها عن ملامحها،
هرعتْ تجاهه بذُعرٍ،
عندما رأتْ جسدَه ممتدًّا، يفترش الأرض… لا حراك فيه…

صفاء القاضي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock