معركة ذات السلاسل: أول انتصار إسلامي كبير على الفرس

كانت الجزيرة العربية قد هدأت لتوّها من عاصفة حروب الردة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقف في المدينة ينظر شرقاً وشمالاً. أمامه إمبراطوريتان عظيمتان: الروم في الشام، والفرس في العراق وما وراءه. تذكّر قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾، فاختار أن يبدأ بالفرس؛ لأنهم كانوا أشدّ الأعداء بغياً وكفراً وعداوة للعرب.
**استدعاء سيف الله المسلول**
استدعى أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنه، الرجل الذي لم يُهزم قط، والذي أنهى للتو مسيلمة الكذاب في اليمامة. جاءه الأمر الصريح: «يا خالد، انطلق إلى العراق!».
كان الجند قد سُمح لهم بالعودة إلى بيوتهم بعد حروب الردة الطويلة، فعاد أكثرهم مرهقين، فلم يبقَ مع خالد في البداية إلا ألف مقاتل فقط. لكن الخليفة عزّز جيشه تدريجياً حتى بلغ ثمانية عشر ألف مجاهد.
**الخطة العبقرية**
رسم أبو بكر خطة محكمة:
– خالد يهجم من الجنوب.
– عياض بن غنم يهجم من الشمال.
ثم ألقى بين القائدين التحدي الجميل: «من يدخل الحيرة أولاً يكون أمير العراق!»
فاشتعلت نار التنافس المقدس في صدور المجاهدين.
**الوجهة الأولى: الأُبُلّة**
اتجه خالد نحو الأُبُلّة، أعظم موانئ الفرس على الخليج وقلب إمداداتهم. كان يحكمها هرمز، الأمير الفارسي المتغطرس وعضو ديوان كسرى الأعلى وعدوّ الإسلام اللدود.
بعث خالد إليه الرسالة الخالدة:
«بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فعليك إثم المجوس، ثم أدّ الجزية وأنت صاغر، وإلا فوالله لأبعثن إليك قوماً يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة».
رفض هرمز بغضب، وجمع جيشاً هائلاً بدعم مباشر من كسرى. ظنّ أن المسلمين في كاظمة، فسار إليها. لكن خالد خدعه بمناورات الصحراء، أرهقه في الحفير، ثم عاد فجأة إلى كاظمة ليستريح هو وجيشه.
**يوم ذات السلاسل**
وصل هرمز غاضباً بجيشه المنهك، وقطع مياه الفرات عن المسلمين ليظمئهم. ابتسم خالد وقال: «احطوا رحالكم، فالماء للأصبر والأكرم».
خوفاً من فرار جنوده، أمر هرمز أن تُربط أرجلهم بالسلاسل الحديدية بين بعضهم، فلا يستطيع أحد الهروب. وهكذا سُمّيت المعركة «ذات السلاسل».
اصطفت الجيوش في كاظمة سنة 12 هـ (633 م).
– بدأت بمبارزة الرجال.
– تقدم هرمز متبختراً، فبرز إليه خالد.
– دارت بينهما ضربات كالصواعق.
– انقضّ فرسان فارس ليغتالوا خالد من الخلف، لكن القعقاع بن عمرو التميمي قفز كالأسد فقطع رؤوسهم.
– وفي لحظة خاطفة، هوى سيف خالد على هرمز فأرداه قتيلاً.
ما إن رأى الفرس أميرهم يتهاوى حتى انهار معنوياتهم. والذين ربطوا أنفسهم بالسلاسل صاروا كالأسرى بأيديهم، فقُتل منهم عشرات الآلاف، وغرق آخرون في المستنقعات، ولم ينجُ إلا القليل.
**معركة المذار وفتح الأبلة**
لم تسقط الأبلة بعد. جاء جيش فارسي جديد مع فلول المهزومين بقيادة قارن (أو القادس)، ومعهم سفن جاهزة للهرب. اختاروا موقعاً عند نهر المذار شرقي دجلة.
علم خالد بالخطة، فانطلق كالبرق بطليعة يقودها المثنى بن حارثة الشيباني. وصل فوجد الفرس ثمانين ألفاً، ومعه ثمانية عشر ألفاً فقط. لاحظ خوفهم الشديد وسفنهم الجاهزة، فصاح: «اثبتوا، فوالله ليُهزمنّ الله هؤلاء!».
بدأت المعركة بمبارزات نارية:
– برز معقل بن الأعشى فقتل قارن.
– ثم انقض عاصم بن عمرو وعدي بن حاتم الطائي على قواد الفرس فأردوهم صرعى.
انهار الجيش الفارسي كجدار من رمل. لاذوا بالسفن يفرون، فسبح المسلمون خلفهم وقتلوا وأسروا حتى فتحوا الأبلة، ورفرف لواء التوحيد على أعظم موانئ الفرس.
**نتيجة المعركتين**
كان ذلك في سنة 12 هـ، أول انتصار إسلامي كبير على أرض العراق. به سقطت مفاتيح بلاد الفرس ، وانفتح الطريق نحو الحيرة ثم المدائن، وبدأت إمبراطورية كسرى العظيمة تهتز من أساسها، معلنةً بداية النهاية لدولة الساسانيين على يد رجال من المؤمنين يقودهم سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه.









