علي الحفناوي يكتب :شخصيات مؤثرة في تاريخنا

عندما نطالع دهاليز التاريخ، لا يسعنا إلا أن نسلط الضوء على بعض المعلومات التي قد لا نعيرها عادةً الاهتمام، إن التقينا بها في ثنايا الأحداث التاريخية الهامة، بل الأحداث الفاصلة. ومن نوعية تلك المعلومات التاريخية، قيام مجموعة من الأفراد بأدوار سياسية أو اقتصادية أساسية عبر فترة زمنية عابرة للأجيال، رغم أن الرابط الوحيد بينهم هو انتماؤهم لنفس العائلة أبًا عن جد. ولأن المسألة ليست في وجود جينات وراثية، إنما هي هيمنة اجتماعية للاحتفاظ بقوة نفوذ العائلة في البيئة المحيطة بها، تصل إلى درجة التخطيط الدقيق للسيطرة سرًا على هذا النفوذ، بما يشبه تخطيط الجماعات السرية الماسونية.
وبمناسبة مرور أكثر من مائة عام على اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة في مايو 2016، وجدت أن تسليط الضوء على عائلة السيد “بيكو” الفرنسي سيظهر مدى انتمائه لمثل تلك العائلات المسيطرة والحاكمة، بل المؤثرة على مجريات الأحداث العالمية.
ودون الرجوع إلى أصول تلك العائلة منذ القرون الوسطى، سنبدأ برب الأسرة، حامل الاسم الذي انتقل لأفراد أسرته، وهو السيد “جورج بيكو” الذي ولد عام 1838 وتوفي عام 1909. وكان هذا جورج بيكو معروفًا كأكبر مؤرخ وشخصية قانونية في ذات الوقت. ولأنه استطاع تدوين التاريخ السياسي لفترة الثورة الفرنسية، فقد نال شرف التعيين مدى الحياة في أكاديمية العلوم المعنوية والسياسية. ومن المعروف عنه أنه كان على صلة وثيقة برئيس الجمهورية الفرنسي “إميل لوبيه”، الذي كان يشكو له من سيطرة جماعات الإخوان الماسونية على السياسة الفرنسية، لدرجة إغفال قراراته كرئيس جمهورية. ويقال إن بيكو كان المتلقي لشكاوى الرئيس لتوصيلها للماسونيين، حيث كان متوقعًا أن يكون له صلة بهم، بصفته شخصية واسعة النفوذ. وقد تزوج من ابنة وزير داخلية فرنسا وأنجب منها سبعة أبناء.
ثم جاء الأبناء. فالابن الأكبر “شارل” كان كبير مفتشي وزارة المالية ورئيسًا للبنك الصناعي والتجاري، ورئيسًا لغرفة مقاصة البنوك الفرنسية. وبذلك كان له اليد العليا على شؤون فرنسا المالية.
ثم أتى من بعده الابن الثاني “فرنسوا”، الموقع على اتفاقية “سايكس بيكو” الشهيرة. وقد كان محاميًا ودبلوماسيًا، انتقل لتمثيل فرنسا كسفير في عدة سفارات (الدنمارك، الصين، لبنان)، ثم جاء إلى القاهرة حيث نمت علاقاته بالطائفة المارونية أثناء الحرب العالمية الأولى. وكان فرنسوا بيكو عضوًا في “الحزب الاستعماري الفرنسي”، ومن خلاله كان ينادي بضم الشام إلى فرنسا كمقاطعة فرنسية خالصة، تكون حدودها من الإسكندرونة شمالًا إلى سيناء جنوبًا، ومن الموصل شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا. وكان ذلك بالطبع أثناء الحرب العالمية الأولى مع بداية انهيار الإمبراطورية العثمانية. لذلك، رتب ووقع الاتفاقية السرية “سايكس بيكو” عام 1916، والتي لم يكشف عنها إلا سنة 1918 بمعرفة قادة الثورة البلشفية في روسيا. ومن ذريته، والدة الرئيس الفرنسي السابق “جيسكار ديستان”.
ولن أتناول تفاصيل كل أبناء جورج بيكو، لكن سأذكر فقط “جييوم بيكو” الذي كان دبلوماسيًا، وسكرتيرًا عامًا مساعدًا للأمم المتحدة من 1952 إلى 1959، ومندوب فرنسا في مجلس الأمن من 1956 إلى 1959، خاصة في فترة العدوان الثلاثي.
وأخيرًا سأذكر أحد الأبناء المهمين: السيد “جاك جورج بيكو”، مفتش مالية عامة، ورئيسًا لبعض البنوك مثل شقيقه الأكبر، ثم مديرًا عامًا للشركة العالمية لقناة السويس في فترة التأميم، ورئيسًا للشركة المالية التي تأسست بعد التأميم بالأموال التي هربتها الشركة خارج مصر بالإضافة إلى أموال التعويضات.
وبالمناسبة، كانت لهم أيضًا شقيقة، السيدة “ليون بيكو”، التي عملت سكرتيرة خاصة للرئيس الفرنسي “مانديس فرانس” في فترة شهدت العدوان الثلاثي على مصر.
كان كل أفراد عائلة بيكو في مراكز حساسة وقاموا بالعديد من الأدوار الهامة في عصر ازدهار الفكر الاستعماري الفرنسي. حتى أن بعضهم أطلقوا على تلك العائلة اسم العائلة الاستعمارية (Famille Coloniale)، وظهر ذلك بوضوح في مذكرات جاك جورج بيكو عن تجربته في إدارة شركة قناة السويس ومحاولاته تدويل القناة تفاديًا لإعادتها إلى مصر بعد نهاية الامتياز.
لا أعتقد أنه يوجد ما يسمى بعائلة استعمارية، إنما هي عائلة وطنية فرنسية بمفهوم ذلك العصر، تعارضت مصالح فرنسا فيها مع المصالح القومية لبلاد الشرق الأوسط وأفريقيا. إنما هي بالتأكيد عائلة صاحبة نفوذ، قد تكون الماسونية إحدى أدواتها للحفاظ على نفوذها.
ولجورج أن يفتخر بأبنائه… ولنا أن ننتقد تاريخ تلك العائلة التي ساهمت في احتلالنا ونهب ثروات بلادنا.
فبعد أن تحدثنا عن تاريخ وأصول عائلة السيد بيكو الموقع على الاتفاقية الشهيرة “سايكس بيكو” منذ مائة عام… ماذا عن السيد سايكس؟
ما نعلمه أنه من عائلة أرستقراطية بريطانية من “البارونات”، ولد عام 1879 وتوفي عام 1919 في باريس بفرنسا. أي أن عمره وقت التوقيع على الاتفاقية الشهيرة لم يكن يتعدى السابعة والثلاثين. وقد اشتهر السيد مارك سايكس كمغامر يجوب بلاد الشرق الأوسط وآسيا الصغرى. ونتيجة لعلاقاته العائلية، فقد تم تعيينه في فترة الحرب العالمية الأولى في سكرتارية وزارة الدفاع البريطانية، ملحقًا عسكريًا في منطقة كردستان، حيث كانت اتصالاته متشعبة بعائلات تلك المنطقة. ولذلك، فقد لجأ إليه السيد بيكو لوضع خطة تقسيم أقاليم الإمبراطورية العثمانية، متوقعًا هزيمتها بعد الحرب. ومن الواضح أن السيد سايكس لم يحتاج لاستشارة أحد في وزارة الدفاع البريطانية، التي كانت قد أعطت السيد بيكو الضوء الأخضر لدراسة واقتراح ما يراه، لكن بيكو استطاع إقناع سايكس بالاحتفاظ بسرية وثيقة الاتفاقية.
توفي سايكس في باريس فور انتهاء الحرب نتيجة مرض الإنفلونزا، ولم يبق له أي أثر سياسي بعد هذه الاتفاقية التي شكلت خريطة الشرق الأوسط خلال قرن من الزمان… ولكن…
المفاجأة الطريفة جاءت بعد تسعين عامًا من تاريخ وفاته، أي منذ سنوات قليلة عام 2008، حيث طلبت جهات طبية وعلمية إخراج جثته من موقع دفنه، بموافقة من تبقى من أفراد عائلته. فلقد توفي السيد مارك سايكس بأنفلونزا مشابهة لأنفلونزا الطيور. وحيث أن جثمانه كان قد تم وضعه في تابوت محكم ومعزول مصنوع من الرصاص لمنع انتشار الوباء، فقد توقع العلماء وجود بقايا حية لميكروب وباء 1918 الذي قضى على مئات الآلاف من البشر، وأن ذلك قد يساعدهم في البحث عن تطعيم فعال.
وعند الوصول إلى موقع التابوت الذي دفن بعمق كبير، اتضح أنه قد انهار وتفتت بفعل وزن التربة المتواجدة أعلاه. وفشلت محاولة الاستفادة من وفاة السيد سايكس بالإنفلونزا…
هكذا يمر عبر التاريخ بعض الناس لا فائدة منهم سوى وضع بصماتهم على مآسي العالم.









