«إيش تاخد من تفليسي يا برديسي؟» الصرخة التي أسقطت آخر أمراء المماليك

في ربيع عام ١٨٠٤، كانت القاهرة مدينة على شفير الانهيار.
منذ رحيل الفرنسيين قبل ثلاث سنوات، لم تعرف مصر حاكمًا يستطيع أن ينام ليلة واحدة مطمئنًا. المماليك يتقاتلون فيما بينهم، العثمانيون يرسلون واليًا فيُقتل أو يُطرد، والجنود الألبان المرتزقة يعيثون في الأرض فسادًا لأن رواتبهم متأخرة منذ أشهر.
وفي وسط هذا الجحيم، كان هناك رجل واحد يراقب كل شيء بعيونٍ لا تنام: محمد علي، قائد الكتيبة الألبانية، الذي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين بعد، لكنه كان يعرف أن السلطة لا تُؤخذ بالسيف فقط، بل بالصبر والخداع أيضًا.
كان عثمان بك البرديسي آخر أمراء المماليك الكبار المتبقين في القاهرة. طويل القامة، كث اللحية، يلبس دائمًا عباءة حريرية حمراء تُخفي تحتها خنجرًا مزخرفًا. كان يؤمن أن المال والخوف يكفيان للسيطرة على المدينة.
في البداية تحالف مع محمد علي. كان التحالف غريبًا: مملوكي متعجرف وألباني مجهول النسب. اتفقا على طرد الوالي العثماني الجديد حسن بك الجزائرلي، ونجحا. دخل البرديسي القاهرة منتصرًا، وركب محمد علي جواده إلى الجيزة ليُبعد منافسه إبراهيم بك الألفي إلى الصعيد.
ظن البرديسي أنه أصبح سيد البلاد.
لكنه نسي شيئًا واحدًا: الشعب.
الغلال لم تصل من الصعيد منذ أشهر. الأسعار تضاعفت عشر مرات. امرأة لا تجد رغيفًا لطفلها، ورجل يبيع ثوبه ليشتري حفنة عدس.
حاول البرديسي أن يُهدئ الناس: فتح مخازن الغلال يومين، وزّع قليلاً، ثم أغلقها مجددًا.
ثم بدأ يجمع المال ليدفع رواتب الجنود: ضريبة على الأقباط، ضريبة على الشوام، ضريبة على التجار اليمنيين، وأخيرًا… ضريبة مباشرة على كل بيت مصري.
كانت القطرة التي أفاضت الكأس.
في صباح يوم جمعة من مارس ١٨٠٤، أغلقت الأسواق أبوابها فجأة.
تجمع الناس في الأزهر، ثم انطلقوا في الشوارع كالسيل. لم يحملوا سلاحًا تقريبًا، فقط عصيّ وغضبًا متراكمًا من سنين.
كانوا يصرخون بعبارة واحدة صارت أسطورة:
«إيش تاخد من تفليسي يا برديسي؟»
(أي: ماذا تريد أن تأخذ من فلوسي القليلة يا برديسي؟)
في تلك اللحظة بالذات، ظهر محمد علي على جواده الأبيض عند باب الفتوح.
لم يأمر جنوده بضرب الناس. بل العكس: أمرهم أن يقفوا إلى جانب الثوار، أن يحموهم إذا هاجمهم أحد، وأن يفتحوا لهم الطريق.
ثم… أعطى أمرًا سريًا لضباطه الألبان:
«رواتبنا متأخرة… فلماذا لا نأخذها بأنفسنا؟»
في ساعة واحدة، اقتحم الألبان قصور المماليك. نهبوا، كسروا، أحرقوا. وكان بيت البرديسي نفسه أول هدف.
لم يجد البرديسي سوى ثياب الليل، فارتداها وهرب على حمار إلى الصحراء الغربية، تاركًا وراءه كل ما يملك. يقال إنه بكى وهو ينظر إلى القاهرة من بعيد، ليس حزناً على السلطة، بل خوفًا من أن يُقتل كما قُتل غيره.
عاد الهدوء إلى المدينة بسرعة غريبة.
محمد علي لم يعلن نفسه حاكمًا. فقط. ظل يبتسم، يقول إنه «مجرد قائد عسكري بسيط» يريد الخير للناس.
أعاد خسرو باشا الوالي القديم ليومين، لكن الشعب رفضه رفضًا باتًا، فاضطر محمد علي – مُكرهًا طبعًا – إلى شحنه في سفينة إلى #الأستانة.
ثم وقف في القلعة يومًا ما في مايو ١٨٠٥، وتلقى وشاح الولاية من يد العلماء والأعيان الذين «طلبوا منه» أن يحكم.
لكن الجميع كان يعلم في قرارة نفسه أن رجلاً واحدًا خطط لكل شيء منذ اليوم الأول، وانتظر فقط اللحظة التي يثور فيها الشعب… ليظهر هو كالمنقذ.
تلك كانت البداية الحقيقية لعصر محمد علي.
بداية كتبت بدماء البرديسي، وغضب شعب، ودهاء رجل لم يرفع سيفه إلا نادرًا… لكنه كان يعرف متى يتركه الآخرون يرفعونه نيابة عنه.









