حمزه الحسن يكتب :السقوط المتدرج

ـــــــ يجب على النخبة المثقفة أن تدرك أن الحقيقة ليست دائما شعبية وأنه من واجبهم معارضة آراء الجماهير” جوليان بندا، خيانة المثقفين.
حدثت بعد الاحتلال عام 2003 تحولات عميقة في المشهد الثقافي والسياسي تمت ببطء وتدرج ومع الوقت تحولت الى ظواهر عادية بل طبيعية.
لم يعد ما كان يسمى المثقف الماركسي يدافع عن الماركسية والشيوعية التي لم يفهم منها غير فكرة عمومية عن الصراع الطبقي كلفت الاف الارواح البريئة الفتية،
ولم يعد القومي مشغولاً بالدفاع عن القومية كما لو انها كسابقتها الماركسية تبخرت من الذاكرة وتلاشت كل تلك المعارك والانقلابات والمآسي الكبرى، كما ان البعثي لم يعد ما يشغله غير الدفاع عن صدام حسين الذي للمفارقة أول من اجتث حزب البعث في استنساخ لليلة السكاكين الطويلة النازية Night of the Long Knives عام 1934 التي نفذها هتلر في عملية تطهير للسلطة من رفاقه، في قاعة الخلد في تموز 1979 وللانصاف لا يمكن وضع كل هذه الجماعات تحت عنوان واحد وهناك أطياف مختلفة.
بدل هؤلاء ظهر لنا ” مثقفو الهويات الفرعية” والمصالح الضيقة والجماعات وتراجع الدفاع عن القانون والعدالة لصالح الدفاع عن القبيلة، ولم يعد أحد مشغولاً بالدفاع عن القادة المؤسسين للدولة العراقية بل حل الدفاع عن تاريخ وشيوخ القبائل ومواقفهم ولا في الدفاع ضد القواعد العسكرية ولا في اهدار الثروة في تحالفات وترويج للنظام ولا في مستقبل ولا عن سيادة وطنية ولا تخفيض المواطن حقوقه الانسانية الى مستوى الحاجات البدائية،
ولا أحد يذكر كارل ماركس ولا في سوق الغزل الذي جرى استنساخه عراقياً بنموذج كل دوره ووظيفته مطاردة المختلفين وذهنية الوصاية ولو كانوا على حافة الأرض بلغة سوقية يخجل منها حثالات الحانات الرخيصة،
كما ان احداً لم يعد يميز هل ميشيل عفلق نبات أم حيوان؟ هل من فصيلة الجرجير أم الفستق؟ مع ان هؤلاء صنعوا تاريخاً من الدم والكوارث وكل كتب عفلق الانشائية لا تثقف عنزة
وبدل ” المثقف الأممي” الذي كان لا يقبل بوحدة الكرة الارضية بديلاً، ظهر لنا من علب النفتالين ” المثقف المناطقي” الذي كل حلمه هو الدفاع عن مدينته ولو كلفه ذلك الصراخ والبكاء وعودتها سالمة غانمة” الى اهلها من العدو المحلي” وحسب تعبير روائي عراقي ” انقاذها من الحثالات القادمة من الجنوب” كما لو ان هؤلاء غزاة بل لا يتطرق للغزاة الذين يحتلون البلد بقواعد عسكرية وشروط سياسية وهيمنة اقتصادية.
وهذا النموذج الشرير انتج نقيضه المثقف الطائفي وتسمية مثقف اضطرارية وهناك فارق جوهري بين التعصب الطائفي وبين الاعتزاز الطائفي المنفتح على الاخرين كما في دول العالم الحديثة.
صار الدفاع عن توزيع السلطة والمحاصصة حسب الطوائف هو الهدف والغاية ولم تعد هناك أفكاراً للدفاع عنها بل مصالح ومناطق ونفوذ ومواقع.
وماذا كانت نتائج هذا التشرذم الكارثية؟ أولا، تم تفتيت مفهوم النخبة المثقفة التي حتى في أسوأ المراحل حافظت على بقايا تقاليد وحتى بين مثقفي الحزب الحاكم السابق شرائح متذمرة ونظيفة لكنها مثل كل الناس خضعت للاكراهات القاتلة لكنها على المستوى النفسي الداخلي حافظت على صفاء اخلاقي دون الانزلاق نحو الافعال الشريرة في عجلة ضخمة مسننة يقودها رأس النظام تسحق كل من يقف في طريقها.
وثانياً، هذا التشرذم والضحالة الثقافية والفكرية قاد الى اضعاف مفهوم الدولة الوطنية لصالح تضخيم الانتماءات القبلية والطائفية والمناطقية.
هذا التحول لم يحدث تحت ضغط الاحداث ولا بصورة عفوية بل هو” صناعة” وجزء من تدمير مفهوم الهوية الوطنية وسيادة هذه الاصناف من” المثقفين” ترسخ طبيعة الحكم وتحويل الثقافة من أداة الى تغيير وتطوير الدولة والمجتمع الى أداة شرعنة تقاسم السلطة ويحل الولاء محل الكفاءة والانتماء محل النزاهة وتختفي القضايا الكبرى كالثروة والسيادة والاستقلال في القرار والقانون والأمن والعدالة لصالح مطالب وحاجات تتعلق بالطعام والماء والكهرباء كما يحدث في اسطبل للخيول.
تم خلق المواطن المهجن بلا هوية، أي تهجين بعض تلك الحركات، والهجنة تعني فقدان الهوية الاصلية
التي تبقى كشعار شعبوي للتكسب السياسي، وهي تعاني من ما يعرف بالازدواج الوجداني ambivalence : حب الشيء والنفور منه في وقت واحد،
كراهية المحتل وتقليد حياته المرفهة والتعامل التجاري الاقتصادي والسياسي والمخابراتي معه من خلال مصارفه ومافياته وشركاته.
كان المفكر الهندي الكبير البروفيسور في جامعة هارفرد “هومي بابا” أول من أدخل مفهوم الازدواج الوجداني من مفاهيم علم النفس في تفكيك الخطاب الكولونيالي وتغلغله في الثقافة المحلية لوصف:
” علاقات النفور والانجذاب بين طرفي العلاقة” المستعمِر والمٌستعمَر وحسب هومي بابا:
” الخطاب الكولونيالي يريد تخليق متلق سهل الانقياد يعيد انتاج
مسلمات الاستعمار ويقلد عاداته”.
يسوق هومي بابا الطريقة الملتوية في تهجين الخطاب الكولونيالي بالثقافة المحلية بالتذكير بمحاولة تشارلز جرانت جنرال بريطاني عام 1792 عندما حاول غرس الديانة المسيحية في عقول الهنود لكنه خاف من أن يدفعهم ذلك للمطالبة بالحرية،
فوجد الحل في مزج العقائد المسيحية بالممارسات الطبقية الهندية التي تربي على الخضوع. أي لا هو هندي ولا هو إنكليزي بل طبعة مهجنة محسنة وهي الخلطة الجديدة لنا كما سنرى.
هذا التداخل والمزج سيخلق هجنة أو هوية جديدة ليست هندية وليست مسيحية، أي فقدان الهوية وهذه الهوية الجديدة ستكون متعالية على الطبقة الأصل، ومفرغة من جذورها ومشوهة،
ومن مصلحتها وجود القوة المسيطرة بل وحتى الدعوة لاحتلال أوسع،
وبهذه الطريقة ربط الطبقة الهندية التجارية ببريطانيا وتشابكت المصالح
كما تشابكت المصالح في العراق بين نخب الاحزاب وحلفاء الخارج كتشابك أنياب الكلب،
وهو السبب الرئيس لخلق طبقة جديدة مهجنة في السكن والبذخ والملابس والحفلات والسيارات والقصور مع تخلف ثقافي فج من حفاة الأمس كجسر للعبور نحو الأسواق الرأسمالية .
التهجين من مفاهيم علم الأحياء تزاوج بين كائنين من سلالات مختلفة لتكوين نسل يجمع بين صفات الأبوين: كتزاوج الفرس مع الحمار وولادة البغل.
لكن” البغل السياسي” من نوع مختلف وخطير وهو نتاج تهجين ثقافي وعقلي أنتج مخلوقات غريبة عن الناس وعن الوطن وعن نفسها: مخلوقات سياسية مهجنة، النصف الأعلى الظاهري من المهجن بشر عقائدي، والنصف الأسفل من الخصر فما تحت نصاب ولص : متمرد من الخصر نحو الأسفل ومهزوم من الخصر الى الأعلى.
عندما يختفي مفهوم الوطنية وتحل محله الولاءات الفرعية، تصبح السيطرة على السلطة غنيمة، وعندما ترتفع الهويات الضيقة يصبح الاخرون أسرى، يتنتهي مفهوم الشعب ــــــــــــ كما اليوم ـــــ ويحل مكانه مفهوم الحشود الموالية والساخطة والمتعادية والمتحالفة والمنتفعة والخاسرة، وتخرج القضية من إفول نخبة الثقافة الوطنية الى سقوط المجتمع وهو سقوط متدرج وعلى مراحل من التعفن والتفسخ والانحلال لكن أحداً لا يشم الرائحة من التكرار ولان الظاهرة الشائعة تصبح عادية ويعاني الجميع مما يسميه علماء الاجتماع بــــــــــ “العمى الاجتماعي”. لا يسمع المرء صوت محركات معمل الطحين جوار منزله مع الوقت ولا يشم رائحة النفايات مع الوقت ولا صوت مرور القطار المتكرر ولا تلفت نظره شروق الشمس كما في البلدان الثلجية. تصبح الظاهرة الشاذة عادية بسبب التكرار والشيوع والتقبل وتتحول السفالة الى شطارة والخيانة الى علم ودهاء والبراءة الى غباء وتنقلب المقاييس.
وثالثاً، خلق هذا الوضع المشوه مأزقاً للمثقف المستقل النقدي الذي لم يعد يجد بيئة مناسبة للافكار وكل ما يعثر عليه نموذج من ” كتاب الاستعراض” أو الاستعراء الذين يعرضون للجمهور تفاصيل حياتهم الشخصية لشعب يواجه تهديدات وجودية تتعلق بالحياة والمستقبل.
وهذا الصنف المفتون بذاته عكس ما يتخيل البعض يعاني من أزمة ثقة بالنفس ومشاعر غير سوية وهذا الاستعراض المستمر هو طلب نجدة واستغاثة للاهتمام به مع ان مكانة الانسان تنبع من داخله ، واذا كان يعاني من مشاعر تدني الاحترام الذاتي فلن تنفعه كل اغاني الاطراء والمدح لأنه كجرعة مخدر سريعة الزوال مع بقاء المأزق لانه انحراف وجودي في نظرة الشخص لنفسه يحاول الهروب منه للبحث عن مكانة ومدح واطراء كتعويض مؤقت عن مازق عميق لا يحل بهذه الاستعراضات بل باعادة صياغة الذات من جديد.
بدل المثقف النقدي المستقل ظهر الموظف والاعلامي المهرج الذي يلعب على اوهام الحشود والكاتب التابع لاصحاب محطات فضائية من تجار وأميين ولصوص.
كيف حصل هذا التحول السريع؟ من اعلاء شأن الايديولوجيات الى نسيانها تماماً؟ من المفارقات ان جميع الايديولوجيات انهارت في العراق لكن مبولة عمومية في الباب الشرقي مقابل سينما غرناطة باقية حتى اليوم جوار كشك للكتب والصحف سابقا وامام كازينو من طابقين.
من الدفاع المستميت عن القومية الى الدفاع المستميت عن الشارع والحي والمدينة؟ وكيف انتهى الرفيق المؤسس للحزب الثوري الى النسيان وحل مكانه شيخ وأمير القبيلة؟
هذه التحولات ليست المرض بل هي اعراض مرض قاتل وهو مشروع متكامل لتدمير المجتمع والدولة والسلطة والعائلة ينفذه خبراء أشرار.
في كتاب كيت داوت ” فهم الشر، دروس من البوسنة” تحدث عن ثلاثة أنواع من ” إبادة المجتمع” لتخريب أي دولة طبقت في العراق وسوريا وليبيا:
1 :ابادة المجتمع بهدم الأسس الأخلاقية التي يقف فوقها وليس قتل النساء والاطفال لكي يشعر الجميع بالغربة والخوف والكراهية من بعضهم،
2: والابادة الجماعية بالتحريض على جماعة والتشكيك بهويتها وانسانيتها لكي تتحول الى خطر وحيد ونسيان كل المخاطر،
و3 ابادة المنزل وهو الاخطر ليس من خلال نسفه وتخريبه بل من خلال “فقداد هيبته” وتحويل المنزل الى دار استباحة اخلاقية وهدم كل الروابط الاخلاقية بين الافراد، وفقدان هيبة المنزل مقدمة لفقدان هيبة المجتمع لأنه النواة بعد ان تتفسخ وتتعفن الروابط المقدسة العائلية وتصبح الخيانة وجهة نظر وكل شيء” عادي”
في كتابه” خيانة الكهنة” للمفكر جوليان بندا والمقصود بالكهنة المثقفين وترجم للعربية ” خيانة المثقفين” تحدث عن أدوار هؤلاء المثقفين واصفا اياهم بالكهنة الذين خانوا مهمتهم بسبب مصالح ومنافع ومكاسب السياسة وقد استعار المفكر ادوارد سعيد العنوان نفسه في نصوصه الاخيرة” خيانة المثقفين” التي غالباً لا يتم الحديث عنها إلا نادرا لقدرة هؤلاء على التخفي والتبرير ومتانة الأقنعة في حين يتم التركيز على شتم السياسي الذي تقف خلفه في الخفاء في صحفه ومحطاته شبكة واسعة من أهل القلم يروجون له في السر ويظهرون كمعارضة في العلن.
يلوح السقوط والانهيار بسبب عوامل داخلية وجزء من هذا صحيح لكنها عوامل منظمة وتنفذ عبر مراحل وعندما يقع التداعي العام والانهيار الاخير يظهر المجرم والمصنع المشغل كمنقذ كما ظهر مرات من قبل وهو السيناريو المفضل لشعب يعشق المظاهر ويؤمن ان الواقع الحقيقي هو ما يراه وليس ما لا يراه نتيجة ثقافة الحيطان والشعارات الكبرى.









