رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :ذاكرة معادية للأمل

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا


يوم نشر الروائي الياباني كنزابورو أوي الحائز على جائزة نوبل عام 1994 مقالة شهيرة” لنا الحق في القطيعة مع اليابان” اثار ضجة في الاوساط اليابانية المحافظة والمجتمع التقليدي الصارم،
لكن كنزابورو أوي لم يقصد القطيعة او الانفصال عن الماضي بل التصفية من الشوائب، نقد الامبراطورية، وروح التعالي الياباني، والانتحار الفروسي والتطرف القومي، وتخليص الادب من السياسة، وهذا ما تفعله الشعوب بعد الحروب والنظم القمعية والخسارات الكبرى التي سببتها أفكار غير مسؤولة وطائشة.
نحن أيضا لنا كل الحق في القطيعة بعد تجارب أكثر فظاعة من التجربة اليابانية في خسارة حروب وقنبلة ذرية موضعية في المطار وأطنان من القنابل تعادل 6 مرات القنابل على هيروشيما وناكازاكي وخلفت أمراضاً وعاهات في العراق تحتاج الى عشرات الأعوام للتنظيف من شركات متخصصة لأنها تغلغلت في التربة والزراعة والماء والهواء .
عندما يقول الاوروبي ان اوروبا في أفول وان الحضارة الغربية تحتضر وان العقلانية وقيم عصر الانوار قد وقعت تحت سيطرة قوى استعمارية قمعية ونظم شمولية ورأسمالية متوحشة،
والخسارة الكبرى فقدان الأوروبي لذاكرته الجماعية ونسيان عصر البربريات وخوض حروب مدمرة وانكار الآخر كما في كتاب” الخوف من البرابرة” للفيلسوف الحداثي تودوروف.
لكن مقابل شعور الخسارة والأفول الغربي كيف يعبر العربي العراقي خاصة عن خساراته؟ فهو لم يعش عصر أنوار ولا عصر القيم العقلانية ولم يخسر حتى البرابرة الذين جاؤوا من الخارج ، عكس التهديد الاوروبي حيث البرابرة من الداخل.
كيف يعبر العراقي عن خساراته؟ هناك صور الابيض والاسود عن خسارة حديقة او جسر او قنطرة او صور صدام حسين في جبهات الحرب او صور علي حسن المجيد في حفلات الكاولية او صور نقرة السلمان وفي حالات كثيرة صورة منزل وحديقة وسيارة ومدفأة علاء الدين وعائلة جالسة في صالة أمام شاشة تلفزيون وقط يستريح نائماً وصورة معلقة على جدار لراحل وغيرها أو صور المطربة ساجدة عبيد ــــــــــــــ مقابل خسارة الأوروبي للفيلسوفة روزا لوكسمبورغ ـــــــــــــــ أو شقاوات شوارع في انقلابات الستينات وزبائن مقهى ونراكيل والخ.
لم نقرأ أو نسمع أن العراقي خسر الأمل في بناء دولة وطنية ولا خسر فكرة المواطنة ولا خسر تقاليد الديمقراطية ولا تقاليد تداول السلطة ولا خسارة الفكر النقدي العقلاني الذي دمره النظام لصالح خطاب غوغائي سطحي من رمزه يتحول الى نظرية عمل.
وماذا خسرنا؟ خسرنا صور وحفلات عدي صدام حسين وحفلات الاعدام في الشوارع وسط الزغاريد وخسرنا مدخل منزل مغطى بالاشجار وحديقة مرفهة بالزهور وخسرنا صحافة بلا نقاش ولا فضاء نقدي والأهم كل قيم الحياة وتدمير الضمير الجماعي بقوانين وحشية. كل هذه وغيرها لا تظهر في صور الزمن الجميل.
لماذا صور ” الزمن الجميل” أو عملية تجميل الماضي والحنين له نوستالجيا انتقائية تقوم على اقصاء القسوة والرعب والحروب ـــــــــــــــ تسمى انتصارات ــــــــــــ وتركز على الجوانب السطحية المستقرة المنعزلة عن فضاء الموت العام؟.
حتى بعض العسكر من جنود وضباط صاروا ينشرون صورهم بالزي العسكري كشهادة على الانضباط العسكري بل الاناقة لكن لا صورة لخنادق الوحل والجرذان وجثث الارض الحرام المتيبسة ولا صور الامهات المنتظرات قرب نقاط التفتيش المؤدية الى جبهات الخطوط الامامية بالعباءات السود كطيور في الظلام.
تظهر صور الزمن الجميل “النظام” العام في الشوارع وطوابير المحلات وفي دور السينما وتخفي ان خلف كل ذلك العنف الأمني السري المتغلغل في كل الأمكنة من الفنادق الى صالونات الحلاقة وسيارات الاجرة وكل الامكنة. يبدو الأمن واضحاً في الشارع لكنه أمن بلا عدالة.
أين صور المعتقلات السرية خلف هذا الواقع الأنيق والمنظم؟ هناك أسباب لاستدعاء الذاكرة الانتقائية كالهروب من الحاضر وخيباته والخوف من ذاكرة الضحية الجريحة لكي لا يتهم بالسوداوية ـــــــــــــ أي لا يحق له أن يحيا بسلام ولا يحق له أن يروي ويتذكر ــــــــــــــــ وبعض القراء يحتاجون الى مطربين للتسلية وليس الى كتاب للتوعية.
الحل في اعادة بناء ذاكرة نظيفة ترفض فصل القسوة والرعب والحط من قيمة الانسان مقابل مشاهد انتقائية شكلية تخفي خلفها عنفاً وحشياً.
هناك فعلاً ” زمن جميل” لشرائح وفئات وهي مصدر هذا الحنين الانتقائي والذاكرة المشوهة لكن هناك زمن الموت والرعب لشرائح وفئات. الذاكرة الانتقائية لا تشوه الفرد والجماعة بل تشوه التاريخ: تلطيف الرعب والفشل وتحويله الى مصطبة في حديقة أو سيارة في مدخل منزل تحت عريشة أشجار، أو صورة طالبات في جامعة، وفي الوقت نفسه نفي واستبعا الألم والفواجع وتحريف الواقع وترسيخ صورة ملفقة وهمية عن” متلازمة المنتصر” وتجاهل كل المذابح والخسائر الكبرى اللاحقة. كل هذا يعكس ان هذه الجماعات لا تريد التجاوز ولا الاعتراف وتعمل على تخريب الثقة بصنع صور مزيفة منتقاة من وجهة نظر ذات لم تعش وتعرف حقيقة الماضي وليس في النية مغادرته مما يؤكد ان هذه الاحتفالية بصور الزمن الجميل ليست حدثاً عابراً بل هي التمجيد الخفي للهمجية وهذا هو تعريف تودوروف للبربرية” البربرية هي الإنكار الكامل لإنسانية الآخر. إنها اللحظة التي يُنظر فيها إلى الإنسان الآخر على أنه شيء يمكن تدميره أو استغلاله بلا وازع أخلاقي”.
لم يعد البرابرة يأتون من الخارج كما في قصيدة كافافيس، ولا في رواية” في انتظار البرابرة” للروائي ج.م. كويتزي حامل نوبل الذي لم يحضر حفل الجائزة وفاز مرتين بجائزة البوكر واعتذر عن الحضور، ، ولا في رواية” صحراء التتار” للروائي الايطالي دينو بوتزاتي، بل سيأتون من الداخل، من أعماق هذه الذاكرة المضادة للأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock