بروفايل

سلطان العلماء: بائع الأمراء

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في قلب دمشق، في عام 577 هجرية، ولد طفل في أسرة فقيرة متدينة، لم يكن لها مجد دنيوي أو سلطان. كان اسمه عبد العزيز بن عبد السلام، لكنه سيصبح معروفًا بـ”العز بن عبد السلام”، الملقب بـ”سلطان العلماء” و”بائع الملوك”. نشأ في فقر شديد، يساعد أباه في أعمال شاقة، وبدأ طلب العلم متأخرًا نسبيًا، لكنه سرعان ما أصبح من أعظم فقهاء عصره، شافعي المذهب، مجتهدًا في الفقه والأصول والتفسير.
عاش العز في زمن الاضطرابات، عصر الحروب الصليبية والانقسامات الأيوبية، ثم الغزو المغولي الوحشي. كان رجلاً لا يعرف الخوف إلا من الله، يصدع بالحق أمام السلاطين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مهما كلفه ذلك.
في دمشق، برز كخطيب الجامع الأموي، يجذب الآلاف بخطبه المؤثرة. لكن جرأته أغضبت الحكام. عندما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وتنازل عن مدن إسلامية، صعد العز المنبر وأنكر عليه علانية، محذفًا الدعاء له في الخطبة. غضب السلطان، عزله، ثم سجنه. لم يبالِ العز، فخرج من السجن مهاجرًا إلى مصر عام 639 هجرية، حيث رحب به الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاه القضاء والخطابة.
في مصر، اكتشف العز سرًا خطيرًا: معظم الأمراء والولاة كانوا مماليك اشتراهم السلطان السابق من بيت مال المسلمين، فهم في حكم العبيد، ولا يجوز للعبد الولاية على الأحرار. أصدر فتواه الجريئة: عدم جواز ولايتهم!
اشتعل غضب الأمراء، سيطروا على المناصب العليا. جاءوا إليه يتوسلون، ثم يهددون، لكنه رفض التراجع. رفعوا الأمر إلى السلطان، الذي استغرب ورفض الفتوى. هنا، قرر العز الفعل الأعظم: خلع نفسه من القضاء، رفض أن يكون مفتيًا صوريًا يسكت عن الباطل.
ركب حماره، وحمل أهله على آخر، وخرج من القاهرة متجهًا إلى قرية نائية ليعيش في عزلة. لكن الشعب لم يقبل! خرج الآلاف خلفه: علماء، صالحون، تجار، نساء، أطفال، يبكون ويحتجون على الظلم.
وصلت الأخبار إلى السلطان الصالح أيوب، فأسرع بنفسه يسترضي الشيخ. رفض العز العودة إلا بتنفيذ الفتوى: “يجب بيعهم أولاً، ثم عتقهم، ورد ثمنهم إلى بيت المال، إذ اشتروا منه أصلاً”.
وافق السلطان مضطرًا. تولى العز بنفسه عملية البيع في سوق علني، ليمنع التلاعب. عرض الأمراء واحدًا تلو الآخر في مزاد، يغالي في أثمانهم. دخل الشعب المزايدة، يرفعون السعر تضامنًا، حتى يدفع السلطان من ماله الخاص، يشتريهم ثم يعتقهم، ويرد الثمن إلى بيت المال.
من ذلك اليوم، لقب العز بـ”بائع الأمراء”، رمزًا لعزته وشجاعته في مواجهة السلطة.
لم تتوقف مواقفه عند ذلك. عندما اقترب الخطر المغولي، بعد سقوط بغداد، جمع السلطان سيف الدين قطز العلماء والأمراء للشورى. اقترح البعض فرض ضرائب على الشعب لتجهيز الجيش. سكت الجميع عن أموال الأمراء الهائلة، إلا العز!
قال بصوته الجهوري: “إذا لم يبقَ في بيت المال شيء، وأنفقتم كل ما عندكم من ذهب وجواهر، وساويتم العامة في الملبس إلا آلات الحرب، ولم يبقَ للجندي إلا فرسه… عندئذ يجوز أخذ شيء من أموال الناس لدفع العدو”.
رفض الأمراء الخروج للجهاد، متخاذلين. ألقى #قطز كلمته الشهيرة، مستلهمًا روح العز: “أنا ذاهب للجهاد، ومن تخلف فخطيئة حريم المسلمين في رقبته”.
انتصر المسلمون في عين جالوت، بفضل الله ثم شحذ همم مثل همة العز.
عاش العز عمرًا مديدًا حافلاً بالتضحيات، ينصر الإسلام والأمة. توفي في القاهرة عام 660 هجرية، عن ثلاث وثمانين عامًا، ودفن بسفح المقطم. خرجت جنازته مهيبة، صلى عليها السلطان الظاهر #بيبرس، وصلى عليه الناس صلاة الغائب في كل الأمصار.
رحم الله سلطان العلماء، الذي باع الأمراء في سوق الحق، ولم يبع دينه أبدًا. قصته تذكير بأن العالم الحقيقي لا يخاف في الله لومة لائم، وأن كلمة الحق تبقى خالدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock