بروفايل

طليحة الأسدي: من مدعي النبوة إلى بطل القادسية

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في أرض نجد الشاسعة، عاش طليحة بن خويلد من قبيلة بني أسد بن خزيمة. كان رجلاً طموحاً يحب الزعامة، وبدأ حياته كاهناً يعرف أسرار القبائل وخفاياها. أسلم لفترة قصيرة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه ارتد عن الإسلام وهو لا يزال النبي حياً، وادعى النبوة كذباً.
تجمع حوله آلاف من بني أسد وغطفان وطيء وفزارة، مفتونين بكلامه السجعي الساحر، يزعم أن جبريل يأتيه بالوحي. استقر في منطقة تُدعى سميراء على طريق مكة، وأمر أتباعه بترك السجود في الصلاة، قائلاً بتكبر: «ما حاجة الله إلى تعفير وجوهكم في التراب؟ اذكروه قياماً،
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم البطل ضرار بن الأزور ليُنهي هذه الفتنة، لكن طليحة قاوم بشدة. ضرب ضرار بسيفه فلم يُصب طليحة، فانتشر بين الناس أن السلاح لا ينفذ في جسده، فازداد أتباعه. ظل الأمر كذلك حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم،
مع تولي أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، أرسل طليحة وفداً يعرضون الصلاة مع رفض الزكاة. رد أبو بكر بعزم: «والله لو منعوني عقالاً لقاتلتهم عليه!» ثم أرسل سيف الله المسلول، خالد بن الوليد رضي الله عنه.
انطلق خالد من ذي القصة نحو جيوش طليحة المتحالفة مع أسد وغطفان وعبس وذبيان. دعاهم خالد إلى الإسلام أو القتال، فاختار طليحة القتال متكبراً. التحم الجيشان في معركة عنيفة، فنصر الله المسلمين، وانهار جيش طليحة. فر هو وزوجته نوار على فرس واحد نحو الشام، تاركاً أتباعه يُقتلون أو يتشتتون.
أسر خالد عيينة بن حصن، أحد أبرز حلفاء طليحة، وبعث به إلى المدينة مقيداً. سخر الأطفال من عيينة قائلين: «يا عدو الله، ارتددت عن دينك؟» فأجاب: «والله ما آمنت به يوماً!» لكن أبا بكر عفى عنه بعد توبته، فأصبح مسلماً صالحاً.
لم يطل هروب طليحة، إذ شعر بالندم الشديد، فراجع نفسه وعاد إلى الإسلام توبة صادقة في عهد أبي بكر. ذهب معتمراً إلى مكة، متجنباً لقاء الخليفة خجلاً من ماضيه. سمح له أبو بكر بالجهاد إلى جانب خالد، لكنه كتب إليه: «استشره في أمور الحرب، ولا تُولِّه قيادة»، حرصاً على عدم عودة طموحه القديم.
جاءت فرصة طليحة الحقيقية لإثبات توبته في الفتوحات الإسلامية الكبرى، خاصة معركة القادسية الخالدة ضد الفرس. كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى القائد سعد بن أبي وقاص: «استعينوا بطليحة وعمرو بن معديكرب واستشيراهما، لكن لا تولوهما أمراً»، مدركاً أن حب الرياسة كان سبب ردتهما سابقاً.
في يوم أرماث الشديد، حث طليحة قومه بني أسد قائلاً: «أقدموا يا بني أسد كالأسود الضارية!» ثم بارز قادة الفرس وقتل منهم واحداً تلو الآخر بشجاعة أذهلت الجميع.
وفي يوم آخر، هاجم الفرس من الخلف، فانفرد بهم طليحة يكبّر ثلاث تكبيرات مدوية، حتى ارتجف العدو ظانين أن جيش المسلمين كله قد باغتهم.
وفي ليلة جريئة، خرج مع عمرو بن معديكرب وقيس بن المكشوح لاستطلاع معسكر رستم. عبر طليحة النهر على فرسه، اقتحم المعسكر، قتل اثنين من أعظم قوادهم، وأسر الثالث. عاد بالأسير إلى سعد، فسأله سعد مذهولاً: «ما الخبر؟» فشهد الأسير: «هذا الرجل يساوي ألف فارس!» ثم أسلم الأسير، وانتفع المسلمون بخبرته في بلاد الفرس.
ظل طليحة يجاهد ببسالة حتى معركة نهاوند، حيث نال الشهادة عام 21 هـ، مختتماً حياته بخاتمة مشرفة.
هكذا تحول طليحة الأسدي من مدعي نبوة كاذب أضل القبائل بأكاذيبه، إلى بطل إسلامي أذهل الأعداء بشجاعته. غفر الله له بتوبته الصادقة وجهاده العظيم، معلماً إيانا أن باب التوبة مفتوح دائماً، وأن الندم الحقيقي يمكن أن يحول الإنسان من الظلمات إلى النور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock