غزوة الطائف:أسوار الطائف المنيعة

بعد انتصار المسلمين الساحق في غزوة #حنين، وتشتت قبيلة هوازن في كل اتجاه، لم يهنأ الجيش الإسلامي براحة طويلة. تتبع النبي محمد صلى الله عليه وسلم فلول الأعداء في نخلة وأوطاس، ثم توجه بجيشه نحو مدينة الطائف، التي لجأ إليها مالك بن عوف – قائد هوازن المهزوم – مع قبيلة ثقيف بأكملها.
كانت #الطائف مدينة منيعة، تتربع على قمم جبلية شاهقة، محاطة بأسوار حجرية صلبة وحصون دفاعية لا تُخترق. لا طريق إليها إلا عبر أبوابها الضخمة، التي أحكم ثقيف إغلاقها بإصرار. داخل المدينة، خزَّنوا مؤنًا تكفيهم سنة كاملة، وجهزوا أسلحة وسهامًا وكل ما يلزم لصمود طويل أمام أي محاصر.
وصول الجيش الإسلامي ومسار الطريق
سلك الجيش الإسلامي طريقًا جنوبيًا قديمًا، متجنبًا الجبال الوعرة شمال المدينة. مروا بنخلة اليمانية، ثم قرن المنازل، فالمليح، وبحرة الرغاء، حتى وصلوا إلى مشارف الطائف. كان هذا الطريق الطويل استراتيجية ذكية لقطع الإمدادات عن ثقيف من جهة هوازن، ولتأمين الخطوط الخلفية.
وصل المسلمون إلى أسوار الطائف في العشرين من شوال سنة 8 هـ، متعبين من معارك حنين وسرايا نخلة وأوطاس التي استمرت أكثر من أسبوع دون راحة تذكر. لم يكن أمامهم وقت للاستراحة؛ كان عليهم مواجهة هذا الحصن الجبلي الشامخ.
بداية الحصار وتكتيكات القتال
في البداية، نزل المسلمون قريبًا جدًا من الحصون، فأمطرهم ثقيف بوابل من السهام، وأصيب بعض الجنود. فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه إلى موقع أكثر أمانًا شمال شرق المدينة، حيث أُقيم فيما بعد مسجد عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
بدأ القتال بتراشق السهام من بعيد. ثم جاء الجديد: لأول مرة في تاريخ المسلمين، استخدموا “الدبابة” – هيكلًا خشبيًا كبيرًا مغطى بالجلود، يتحرك على عجلات، يحمي الجنود وهم يقتربون من الأسوار لثقبها. لكن ثقيف كانوا مستعدين؛ ألقوا قطع حديد محماة على الدبابة فاحترقت، وخرج المقاتلون من تحتها، فأصابتهم السهام.
ثم جاء دور المنجنيق، تلك الآلة العملاقة التي ترمي الحجارة الثقيلة على الحصون من بعيد. يُروى أن سلمان الفارسي صنعه بيده، أو أن خالد بن سعيد جلب منجنيقًا ودبابتين من جرش اليمانية، حيث تعلم بعض رجال ثقيف صناعة هذه الآلات للدفاع عن مدينتهم. رغم ذلك، لم تكن الكمية كافية لكسر الأسوار المنيعة.
الضغط النفسي والاقتصادي
ليزيد الضغط، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل الطائف وبساتين العنب التي كانت فخر أهلها. صاح أهل ثقيف متوسلين: “دعها لنا!” فتركها النبي رحمة بهم، لكن الرسالة وصلت؛ اهتزت معنوياتهم، وأدركوا أن الحصار يمكن أن يطول ويؤلم.
كما دعا النبي عبيد الطائف إلى الخروج مقابل الحرية. استجاب ثلاثة وعشرون عبدًا، منهم أبو بكرة الثقفي الشهير، فأسلموا وأعتقهم النبي، ولم يعيدهم إلى أسيادهم حتى بعد إسلام ثقيف لاحقًا.
مدة الحصار والخسائر
استمر الحصار بضع عشرة ليالٍ فقط – نحو نصف شهر كما روى العلماء الأوثق مثل عروة بن الزبير وموسى بن عقبة. كانت هناك روايات أخرى تطيل المدة إلى أربعين يومًا، لكن الزمن لم يسمح بذلك؛ فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في السادس والعشرين من ذي القعدة، بعد أن قضى أيامًا في الجعرانة يوزع الغنائم ويؤدي العمرة.
صمد ثقيف ببسالة خلف أسوارهم. استشهد من المسلمين اثنا عشر رجلاً، وأصيب الكثيرون، بينما لم يُقتل من ثقيف إلا ثلاثة فقط، محميين بحصونهم.
قرار رفع الحصار وحكمته
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد فتح الطائف بالقوة وحدها. كان يعرف فطنة ثقيف وذكاءهم، ويأمل أن يصبحوا يومًا دعامة قوية للإسلام. منذ أيام مكة، كان يدعو لهم بالهداية رغم أذاهم له. وعندما طلب بعض الصحابة أن يدعو عليهم، قال بهدوء: «اللهم اهدِ ثقيف».
رأى صعوبة الاقتحام، وأصرار أصحابه على القتال، فسمع لهم قليلاً، ثم دعاهم إلى رفع الحصار. أظهروا الرضا والطاعة لهذا القرار الحكيم. عاد الجيش إلى الجعرانة في الخامس من ذي القعدة، متجهين نحو المدينة.
لم تكن غزوة الطائف مجرد حصار عسكري ، بل كانت درسًا في التوازن الرائع بين القوة والرحمة، وبين الحرب والدعوة. كسرت شوكة #ثقيف، وأثبتت سيطرة المسلمين، ومهدت الطريق لإسلامهم في العام التالي. تحققت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح ثقيف جزءًا من الأمة الإسلامية، يشهد التاريخ على حكمته الخالدة. صلى الله عليه وسلم









