علي الحفناوي يكتب :عن العدوان الثلاثي

لا تمر ذكرى العدوان الثلاثي عام 1956 دون أن نقرأ عن اختلاف وجهات النظر بين مؤيدي وأعداء عبد الناصر حول نتائج العدوان. في الواقع، جميع هذه الآراء تعبر عن توجهات سياسية لا علاقة لها بالتحليل التاريخي الذي يفترض فيه الموضوعية بعيدًا عن الأهواء والتوجهات السياسية. هنا نحاول أن نضع النقاط على الحروف بعيدًا عن السياسة لفهم بعض الحقائق التاريخية.
لنتفق أولًا على أن فشل المعتدي في تحقيق أهدافه لا يعني بالضرورة انتصار المعتدى عليه. ونتفق أيضًا على أن أي حرب تشمل معارك عسكرية واقتصادية وسياسية متعددة. فما الذي نعرفه عن حرب 1956؟
كان استعادة قناة السويس هدفًا صريحًا للحركة الوطنية المصرية منذ احتلال مصر عام 1882، ولم يتحقق إلا بالتأميم في يوليو 1956، بعد إجلاء القوات البريطانية من ضفاف القناة في 18 يونيو 1956 وفقًا لاتفاقية الجلاء الموقعة عام 1954. ولم يكن رفض تمويل السد العالي إلا ذريعة ومواءمة سياسية لتبرير التعجيل بقرار التأميم. ألم يطالب طلعت باشا حرب بالتأميم منذ عام 1910؟ ألم يلغِ النحاس باشا معاهدة 1936 في أكتوبر 1951 كخطوة أولى لطرد الإنجليز واستعادة السيادة المصرية على القناة؟ ألم يخرج الشعب كله بلا استثناء مهللًا بعد سماعه نبأ التأميم؟ ألم توافق الهيئات العلمية والدولية على حق مصر القانوني في تأميم شركة قناة السويس التي كانت شركة مساهمة مصرية؟
أما عن ردود الفعل خارج مصر تجاه قرار التأميم، فقد كانت إدارة شركة القناة الأكثر تأثرًا لما قد تفقده من امتيازات اقتصادية إن لم يتم تعويض حملة الأسهم تعويضًا عادلًا. وبعد انتهاء المفاوضات وسداد كامل التعويضات (28.3 مليون جنيه مصري)، والتي انتهت مصر من سدادها عام 1963، اعترف مدراء الشركة المؤممة بأن رد فعل حكومة فرنسا وإنجلترا بالعدوان العسكري كان أكثر ضررًا على الشركة والمساهمين من قرار التأميم (كتاب مذكرات جاك جورج بيكو، المدير العام السابق للشركة). إذًا، ما الأسباب الحقيقية للتآمر على مصر والاعتداء عليها عسكريًا؟
بالنسبة لفرنسا، كان دعم عبد الناصر لجبهة تحرير الجزائر هو الدافع الرئيسي لمحاولة التخلص منه. وفي هذا الصدد، يمكن الاستماع إلى اعترافات رئيس المخابرات الفرنسية في تلك الفترة، والتي أذاعتها إذاعة “فرانس انتير” بصوته منذ سنوات قليلة، ولا يزال الحديث متوفرًا على الإنترنت، حيث يقول إنهم قاموا منذ نهاية 1954 بعدة محاولات لاغتيال عبد الناصر، حتى لجأوا إلى دس السم في طعامه بمعرفة شخصية مقربة له، وكانوا قد أعدوا البديل الذي سيعود إلى صدارة الحكم في حالة نجاح الاغتيال. وبعد فشل ست محاولات، تحولوا إلى فكرة الهجوم العسكري مع انتظار الفرصة المناسبة.
أما بالنسبة لإنجلترا، فوفقًا لمذكرات أنطوني ناتنج، وزير خارجية بريطانيا الذي اعترض على العدوان الثلاثي واستقال، فإن رئيس الوزراء أنطوني إيدن كان يكره عبد الناصر شخصيًا بسبب إفشاله مشروع حلف بغداد، الذي كانت بريطانيا قد أعدته لاستمرار سيطرتها العسكرية على الشرق الأوسط… وجاءت عملية التأميم كمبرر شكلي للهجوم العسكري على مصر للتخلص من عبد الناصر.
قامت كل من فرنسا وإنجلترا بإقحام إسرائيل في خطة العدوان الثلاثي لتبرير الهجوم، وقد أصبح واضحًا من كل المستندات المنشورة سابقًا عن اتفاقية “سيفر” دور إسرائيل المدعومة عسكريًا بالطيران الفرنسي في غزو سيناء والاقتراب من قناة السويس لتبرير تدخل فرنسا وإنجلترا عسكريًا، بادعاء حماية الملاحة في قناة السويس. أما حكومة إسرائيل بزعامة بن جوريون الموقع على اتفاقية سيفر، فقد كان موقفها مبنيًا على هدف استراتيجي بحت، وهو مقايضة تدخلها العسكري بالحصول على الطائرات والأسلحة الحديثة (بما فيها القنبلة النووية).
بعد توضيح مبررات الجهات المعتدية، ما نتائج العدوان الثلاثي؟
• لم يتم التخلص من عبد الناصر كما أرادت فرنسا وإنجلترا.
• لم يتم استعادة قناة السويس لتأمين الملاحة بها كما كان تبرير المعتدين.
وهذا ما يُظهر فشل تحقيق أهداف العدوان السياسية. ويعلم الجميع دور الاتحاد السوفيتي وتهديد بولجانين بإلقاء القنابل النووية على باريس ولندن، وتصعيد التوتر الدولي خلال الحرب الباردة بين معسكر الشرق والغرب. وقد أدى ذلك إلى اتخاذ أيزنهاور موقفًا مضادًا للعدوان الثلاثي، تفاديًا لتصعيد الأزمة مع الاتحاد السوفيتي، وقتما كان منشغلًا بحملته الانتخابية، رغم ما ثبت بعد ذلك من علم الولايات المتحدة المسبق بخطة العدوان (من مذكرات قائد الأسطول السادس الذي قدم الدعم للجيوش المعتدية في الاستعدادات التي جرت في قبرص). لذلك وجب التنويه إلى أن فشل تحقيق أهداف العدوان الحقيقية كان بسبب مواقف الدول الكبرى وتوتر العلاقات الدولية.
أما عن مكاسب إسرائيل نتيجة اشتراكها في خطة العدوان الثلاثي:
• حصلت إسرائيل على أسلحة حديثة ودعمت قوتها العسكرية.
• وافقت مصر على وضع قوات الأمم المتحدة الدولية على الحدود الفاصلة بين مصر وإسرائيل في سيناء، مما سمح بمرور السفن الإسرائيلية في خليج العقبة من وإلى إيلات، دون الحاجة لرفع أعلام دول أخرى كما كان يحدث منذ عام 1949.
• قامت إسرائيل ببناء مفاعل ديمونة في صحراء النقب بالتعاون السري مع فرنسا.
فهل كان لمصر أي انتصارات عسكرية في حرب 1956؟
• من مذكرات موشي ديان: “كانت مقاومة القوات المسلحة للعدوان الإسرائيلي في سيناء، وخاصة في ممر متلا، قوية خلال الأيام الثلاثة الأولى من العدوان رغم هجوم الطيران الإسرائيلي المدعوم بطيارين فرنسيين، إلى أن صدرت لها الأوامر بالانسحاب للاشتراك في التصدي للعدوان البريطاني الفرنسي غرب قناة السويس، فتم الانسحاب بتعجل مما أضر بالقوات المنسحبة، وسمح للقوات الإسرائيلية بالاقتراب من القناة”.
• اشتركت القوات البحرية المصرية لأول مرة في مقاومة العدوان، بل ذهبت إحدى المدمرات إلى الهجوم على ميناء حيفا (المدمرة إبراهيم).
• “قامت المقاومة الشعبية في بورسعيد بعدة بطولات في التصدي للقوات المعتدية، وهى التي أدت إلى تعطيل سرعة الاحتلال”، (من مذكرات قائد القوات الفرنسية الجنرال آندريه بوفر).
المحصلة النهائية:
• فشل العدوان الثلاثي بقواته الغاشمة، رغم قلة المعارك المباشرة، ورغم قصف الطائرات المعتدية لكل المطارات المصرية، ورغم أضرار الانسحاب غير المنظم للقوات المسلحة المصرية من سيناء.
• وقف المجتمع الدولي بأكمله ضد العدوان الثلاثي، خاصة ما رأيناه من مظاهرات عارمة في كل من فرنسا وإنجلترا وعدة دول أوروبية ضد هذه المغامرة العسكرية.
• استقر وضع قناة السويس القانوني في حيازة مصر صاحبة الحق الأصيل فيه، ونجحت الإدارة المصرية في تشغيل وتطوير قناة السويس، كما تم بناء السد العالي.
• نمت حركات تحرر العالم الثالث من الاستعمار استنادًا إلى النموذج المصري الذي رفض الانصياع للأطماع الاستعمارية.
• دخل العدوان الثلاثي كتب التاريخ كآخر حرب استعمارية في القرن العشرين، وانتهى معه عصر استعمار الدول الأوروبية.
• تحولت إسرائيل إلى دولة نووية نتيجة لتحالفها مع فرنسا، فأصبحت نقطة تهديد لأمن الشرق الأوسط ولا تزال.
• دخلت مدينة بورسعيد التاريخ الوطني المصري لما بذلته من مقاومة باسلة للعدوان.
وفي النهاية، يمكن التأكيد على أن العدوان الثلاثي في 1956 قد فشل، وإن لم تتحقق فيه انتصارات عسكرية.
أما عن معركة مصر الممتدة تاريخيًا ضد الاستعمار، فقد كان هذا العدوان نقطة تحول أساسية في تلك المعركة تُحسب لمصر.









