حمزه الحسن يكتب :سجين متنقل

ــــ أنا حر يا زوربا ؟ ــــــ كلا لست حرًا، كل ما في الأمر أن الحبل المربوط حول عنقك أطول قليلا من حبال الآخرين * كازنتزاكي، زوربا اليوناني.
هل يفكر الببغاء ام يقوم على محاكاة التفكير والانماط الملقنة بلا وعي، أي يقوم بالمعالجة كنظام الذكاء الاصطناعي، والتقليد، والنظام الآلي، من دون مشاعر ولا خبرة ذاتية بل خبرة آلية احتمالية بناء على أنماط تعلمها سابقاً دون وعي وبلا فهم: مجرد نظام خوارزمي على شكل بشر تمت برمجته منذ الطفولة وما يقوم به ليس تفكيراً بل محاكاة وبما أن التفكير يتطلب الوعي والمحاججة الذاتية المنطقية وتقليب الخيارات، فالببغاء لا يفكر، كذلك التابع لا يفكر لأنه مبرمج مثل كائن آلي.
رغم ان التابع هامشي ومقصي غالبا من السلطة لكنه في العقلية جزء منها لأنه يستعمل اللغة او المعلومات نفسها لأن كل تفكيره نابع من نظام الهيمنة ولو عارضها في الظاهر ليس كسلطة بل لانها مفرطة الرقابة والسيطرة.
الشيء الوحيد الذي أفلحت فيه الأحزاب الشمولية في العراق هو انتاج هذا الكائن الخوارزمي الملقن.
الببغاء في قفص لا يختلف من حيث الفاعلية عن انسان تابع وكلاهما في حالة سلب الارادة والمصير والاختيار،
لكن هل يفكر التابع؟ التابع لجماعات أو منظومة ثقافية جاهزة أو قاموس استعماري تسلل الى اللغة المحلية بالتقطير أو حتى التابع لفرد؟
التابع بلا هوية لأنه أسير مفاهيم وقناعات من خارجه ولا من تفكيره ومن سلطة ما أقوى منه وهو في وضع الإستلاب. المستلب مشغول بالنجاة لا بالتفكير السوي.
سؤال المفكرة الأمريكية البنغالية الأصل والمُنظّرة الماركسية الهندية غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك: هل يفكر التابع؟ المقال الذي تحول الى مرجع لدراسات ما بعد الكولونيالية منذ نشره عام 1988.
هل الثرثرة والتلقين هو تفكير؟ كيف نفكر بلا ثقافة وبلا انتاج معرفة؟ كيف يمكن لمطحنة قمح فار غة أن تنتج غير الضجيج؟
إن” العقل” ليس الدماغ المادة العضوية بل العقل هو” المحتوى الثقافي” وليس كل إجترار تفكيراً.
كتاب دراسات ما بعد الكولونيالية من تأليف ثلاثة مفكرين يتناول خطابات مرحلة ما بعد الاستعمار وهم:
بيل أشكروفيت و جاريث جريفيث هلين تيفين، وهو كتاب تعريف لمفاهيم ما بعد الكولونيالية في اللغة والادب والسياسة والتفكير،
والطريقة الماكرة التي تتداخل فيها المفاهيم الاستعمارية مع الثقافة المحلية بحيث تظهر كمنتوج محلي،
وفي العراق جيش ضخم واسع ممول للترويج، أو للتسويق المجاني عن جهل أخطر من الشر الذي يمكن مواجهته.
كيف تواجه الغباء بالمنطق؟
إن مفاهيم الحرية والعدالة والحداثة والحقيقة والسلطة والسيادة والحقوق والاستقلال، يجري تحريفها بترسانة ضخمة من التبريرات،
كما جرى تحريف وتشويه شعارات الاشتراكية والحرية والوحدة والعدالة وغيرها،
والأخطر أنها تتشابك مع مفاهيم ثقافة محلية وتختفي كمفاهيم
استعمارية حتى لو رحل المستعمر وتتداخل مع الفلوكلور والثقافة الشعبية،
لأن القاموس الاحتلالي اللغوي هو أخطر من الجيوش التي يمكن مواجهتها بالمقاومة المسلحة أو السلبية.
لم يسلم أدباء من الوقوع في فخ مفاهيم ما بعد الكولونيالية،
وبعضهم شعراء أو روائيين من حملة نوبل في الرواية مثل وولي سوينكا وأيميه سيزار، وسلمان رشدي الهندي الأصل والروائي الهندوسي ف. س.نايبول من أسرة مهاجرة الى بريطانيا وحاز على نوبل،
وتبنى هؤلاء النظرة الاستعمارية من خلال مفاهيم محلية، مما يعكس قدرة الخطابات الاستعمارية على الاختراق: مشاعر اللامبالاة أمام المحن الكبرى والافتتان بالذات والتمركز حولها وخلق الذرائع لذلك هو جزء من أعراض مرض التابع الذي خيل اليه ان هذه استقلالية لانه لا يرى الحبال الداخلية الطويلة التي تشده.
في العالم العربي جيوش من هؤلاء بقشرة حداثية مهلهلة تمشي بين العوام.
في محطات حرجة في تاريخ الشعوب اليوم، يتحكم الخطاب ما بعد الكولونيالي بالثقافة المحلية من قبل مثقفين ومواطنين، ونتيجة الانهيار العام أمام موجة عارمة وقوية،
سوف يقاوم السقوط عدد قليل من المثقفين والكتاب، وهؤلاء سيظهرون في محيط السقوط العام،
والابتذال والتداعي “كحفنة مجانين” في مواجهة تيار عارم من التداعي،
بل سيجري وصفهم بالمجانين وما هو أسوأ،
لاخراس آخر معاقل المقاومة الثقافية، ويتولى “مثقفون” مأجورون أو سطحيون مهمة الوصم والتشويه،
وهو أمر يمشي بين الغوغاء وفاقدي الاستقلالية الشخصية والثقافة القانونية والاحترام الذاتي.
تصدى مفكرون كبار لمهمة فضح حقيقة هذه الخطابات المزيفة القمعية المغلفة بشعارات الحرية والحداثة أمثال: فرانز فانون وأدوارد سعيد،
والمفكر الهندي الكبير هومي بابا، والدكتورة البنغالية غياتري سبيفاك أو ما يعرف بــــ الرباعي المقدس في نقد الخطابات ما بعد الكولونيالية وكشف زيفها.
هؤلاء اثبتوا ان التفكير ليس خاصية اوروبية كما هو في ” المركزية الغربية europocentrisme” التي وصفها المفكر سمير أمين بــــ:
” أيديولوجية أو محيط مركزي، أو تبعية للتطور الرأسمالي” تؤمن بالتفوق العرقي ترى الحياة والاحداث من منظور غربي إستعلائي كما لو أن الافريقي واللاتيني والآسيوي لكي يفكر، يجب أن يفكر من خلال وعي أوروبي،
أي لا يفكر بل يردد.
في صفوفنا اليوم الكثير من التابعين الذين يتكلمون كثيراً دون أن يقولوا شيئاً في الحقيقة، لأن عقل التابع في مكان آخر، مطحنة بلا قمح عدا الضجيج العالي، لكنه الأخطر من جيوش الغزو:
يتوهم التابع عندما يصدق أنه يفكر، هو قاموس جاهز وببغاء في قفص واي محاولة لاقناعه انه كائن ملقن ومخلوق خوارزمي ظهر قبل الذكاء الاصطناعي واقل كفاءة منه كمحاولة اقناع تمساح ان الحديقة أفضل من الوحل.
كائن مستلب وسجين متنقل بكامل اناقته ويمكنه ان يقول كل شيء لكنه في الحقيقة يرطن ولا يتكلم.









