كتاب وشعراء

قراءة في قصيدة..” خلخال يربك العدم”للشاعرة التونسية صباح نور الصباح…..بقلم محمد المحسن

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

القصيدة تطرح أسئلتها،وتنفتح عند تفاصيل الدهشة حيث النص يخترق الذاكرة،ويلملم الحلم والغياب في مشهد يتشكل كلوحة يتوغل فيها السحر والمعنى والاحتفال..هذه القصيدة (خلخال يربك العدم ) تفتح نوافذ الشاعرة التونسية الشابة (صباح نور الصباح) على مساحات سرية تقفل رؤيا الشاعرة على قراءة الرمز والحلم والجمال، بين تراكيب لغوية مكثفة يتشيأ فيها (النص) أحيانا كوحدات قلقة..يفتض عوالمه المشبعة بالرؤى حيث المدى،والاتساع والتجلي..أو بين (تهويمات) غنائية،تسعى فيها الشاعرة إلى استبطان الداخل اللغوي المشبع بسرد انتقائي،تحاول أن تتنفذ منه الى حيز آخر،يحيل فيه النص الى علاقة وصفية / رؤيوية..تمزج بين اتساع الخيال ومحدودية اللغة.
في قصيدتها ( خلخال يربك العدم) تتمثل إلى هذه المحاولة القلقة القائمة على مساحة من التأمل والانفعال باللغة والمعنى..واغواءات الحلم،حيث تحتال بالانفعال في تتبع لغة تخرج من-ثقوب غيمة تعانق السماء-،كي تكتب فاتحة الرؤيا للبهاء الذي يملك سر الكلمة والبراءة..
إن مسعى الشاعرة إلى اقتفاء تضاريس النص،هو محاولة إيقاف حركة زمنها الشعري عبر محاولة استقراء حلمها،في رؤيا تستبطن كشوفاتها،وتشكل تواصلا مضادا إزاء زمنها المجهض المغمور بالغرابة والتماس المعنى الشمولي عبر وعي اشكالي يمكنها ان تكشف جوهر هذا الزمن بكل ما يحمله من نور كوني..موسيقى حالمة،سكون عدمي..وتهويمات شاعرية باذخة..انه زمن خام..قلق..غير مبرر احيانا تتوخى فيه الشاعرة فكرة الجوهري/الشعري المشرع على احتمالات التأويل والمبني على (الهمس والتلمس والحس والخيال) وهذا الزمن الذي تحاول قراءته الشاعرة يحيل حتما الى محاولة كشف استبطانات اللغة التي تعتبر الشعر ضرورة كما يقول جان كوكتو في استحضار الحلم والرؤيا والاحتفال…
تقول الشاعرة التونسية صباح نور الصباح ( يبدو لي أن الإسم مستعار للضرورة الإبداعية..!)
خلخال يربك العدم..

هو ذا المساء يتأنق
للقائك

أيتها الربة
آن لثوب الساتان المثير
أن يستريح
وللثوب القطنيّ الأنيق
أن ينسدل..

وجهكِ
الموشّى بنورٍ كونيٍّ خفيف
يصافح الآن
ظلمة الليل السرمدي
دون خوف..

أنتِ الآن
كأفروديت
ملهمةُ جوبيتير
لا تهابين سياط الزمن
ولا سطوة الطين..

ها أنت ترفعين رأسكِ
فتعشّش في غرّتك
طيورُ مينيرفا،
وترفرف
حول جبهتك الشمّاء
فراشاتُ الوجود..

أيتها الربة!
هو ذا الشتاء،
فاخلعي نعلكِ الكريستالي
الذي أغوى الشعراء،
ودقّي الأرض
بقدميكِ الحافيتين،
دعِي خلخالكِ
يربك سكون العدم،
واتركي موسيقى حالمة
تسري في شرايين العشّاق
كلّما راقصوا كلماتك،
كلماتك المنتشرة ككونشيرتو في ذرات الانفجار الأول..

خفيفٌ حضوركِ الآن
كأنكِ نسيمٌ عبر هذا اليباب
ناثرا في طرق المحبين حبوب الطلع..

ها هو أولمب
يشرّع جباله،
فتخفّفي
من ثقل الطين
ومن زنخ الماء

كبلورةٍ شفافةٍ،
أضيئي،
انتشري،
فولائمُ السماء
تنتظر حضوركِ المخمليّ..
تتخذ القصيدة صورة خطاب غنائي/توسلي موجه لـ”ربة”أو أنثى متعالية،تجمع بين صفات الآلهة والإلهام والحسية الأرضية.الفكرة المركزية تدور حول تحول هذه “الربة”من حالة التأنق والجمال المجرد (الساتان،الكريستال) إلى حالة من الفعل الكوني الخلاق،حيث يصبح جسدها/وجودها أداة لإرباك “العدم” وإيقاظ الحياة،العشق،البهاء،العطاء والتجلي.إنها دعوة للأنثى (ربما رمزًا للشعر، الجمال،الإبداع،أو القوة الأنثوية المبدعة) للنزول إلى أرض الواقع والصراع،وعزف”وتريات عشقية” موسيقية في فضاء اليباب والجدب العاطفي..
انه عشق مترع بالتحدي بل قل شوق أنثوي تقيم الدهشة والغرابة طقوسه التي تحيل اللغة احتفالا له طابع هلامي يتوغل احيانا عبر الذاكرة المفزوعة بالخراب والفوضى وتمرّد الأنثى على الطقوس القبلية البالية..
إن قصيدة”خلخال يربك العدم” لا تذهب بعيدا عن محاولة إعارة النص بعض التفاصيل التي تشبع الرغبة الأنثوية بسرد انتقائي..تلتمس تفاصيله الشاعرة عبر شبكة من العلاقات اللغوية / الصورية التي تستبطن (معنى) قائما سلفا،حيث تلج المرأة تضاعيف المسكوت عنه..
وتمور نواميس الغواية في وجدان أنثى أرهقته الرغبة العاصفة في الإنفلات من عقال الصمت الأخرس..لتستمرئ الشاعرة لحظتئذ وقع -تمرده-على زمن ملغوم بالدهشة والغرابةوالتابوهات..انه زمن (الخارج) الذي تهزم فيه..وتحاول عبر-تجلياتها السافرة- إيغال الرؤيا في تفاصيل تجعل النص الشعري احتفالا ما،يبهج الشاعرة أو يؤلمها عند تخوم العطب..
في هذا النص المربك من حيث المبنى والمعنى
تزدحم الصور البصرية الحسية التي تخاطب الحواس: “خلخال يربك”، “ثوب الساتان المثير”، “قدميك الحافيتين”، “نسيم..ناثرا..حبوب الطلع”.
وينخرط الرمز في عناق حميمي مع الأسطورة:
أفروديت” (إلهة الحب والجمال)، “مينيرفا” (إلهة الحكمة)، “جوبيتير” (المشتري، كبير الآلهة).
هذه التوليفة العجائبية تخلق كائناً أنثوياً يجمع الجمال،الإلهام،الحكمة،والقدرة على تحدى الزمن (“لا تهابين سياط الزمن”) وتظهر لنا الرمزية الميثولوجية المكانية: “أولمب” (جبل الآلهة) يشرع جباله،و”ولائم السماء” تنتظرها.مما يضع الحدث في فضاء أسطوري رحب.
ولصياغة فضائها الشعري إزاء هذا التمرّد والتحدي،تبدأ الشاعرة بالكشف عن تراكيب تندغم فيها الصور سريعة مقطوعة،بمساحات صورية أخرى..بطيئة تحتال باللغة وتتورط معها في استطرادات تثقل النص احيانا بالتجريد والتعمية المقصودة..وهذه التراكيب الصورية التي تشكل فضاء النص تبرر الى حد ما وعي الشاعرة إزاء تركيبة النص الحداثي..فالنص المفتوح على الاحتمال والمعنى تكشف فيه الرؤيا عن عوالم متراكبة مأخوذة بالاستطراد كإشكال لغوي وبالتوالد كإشكال بنيوي…انها تأخذ في قصيدة (خلخال يربك العدم) مثلا إيقاعا شكليا متفاوتا يمزج بين (نثرية) المعنى والخطوط الحلم التي لا تفتأ أن تكون إيقاعا آخرا يتلجلج بشعريته وسط متون متفاوتة في شدها واتساعها،بحيث لا تخشى الشاعرة إزاءها فراغات النص..وبياضه..انها تقترح فضاءا مفتوحا ومبررا حيث تستحيل فيه اللغة الى حلم او خطاب يستبطن الجمال في تجلياته العجائبية..وفي هذا السياق،تتجلى قدرة الشاعرة على نسج عالم شعري متماسك،حيث تذوب الحدود بين الأسطورة والواقع،والحسي والمجرد. و تتراءى لنا الصورة المركزية (الخلخال) قوية ومبتكرة في دلالاتها.مقترنة بلغة موحية وغنية دون إفراط في التعقيد.
إن المناخ الشعري الذي تبرعمت في ظلاله أشعار الأستاذة صباح نور الصباح يتسم في مجمله بالتفاعل الخلاق مع الجانب الحداثوي وهذا ما أعطى قصائدها تحديثا شديد الألفة،من خلال لغتها التخييلية المشكلة تشكيلا عضويا ساعد على خلق معادل فني تلعب الذات دورا بارزا في أساسيات نموه وبالتالي تحوله الى وحدة تكوينية تجمع بين تشكيلاتها المتناهية الدقة كل ما هو متنافر ومتضاد حيث تؤدي هذه الأضداد وظيفتها في إنجاز الهيكلية الهندسية للصورة الشعرية المتوافقة مع إيقاع حركة الواقع والمتعارضة معه.عندما يحاول ذلك الواقع أن يفرض منطقا عقلانيا يتعارض والفضاء التخييلي للغة الشعر.
إن هذا البناء اللغوي،سوى في خاماته الأولية او المنتقاة لا ينسحب على القصيدة الحديثة فحسب،بل يتعداه الى التجارب التي اتخذت من قصيدة النثر وعاء تصب فيه ما يترشح من عملية التغطية التي تتعرض لها ذات الشاعر/الشاعرة..ومن هناك فإن شعرية قصائد الشاعرة التونسية-صباح-تمثل خطوة أخرى باتجاه قراءة النص الآخر الذي بدأ يشكل خطواته في مسار القصيدة العربية وهي تتململ اليوم بكل اختزاناتها وسحرها وقلقها للخروج الى برية الاتساع حيث الشكل يمسك لذة الحلم،وحيث الحلم يفور في مسارب المعنى..والشاعرة-صباح نور الصباح- تقيم طقوسها على تفاصيل الاشياء…حالمة او كاشفة او قائمة وسط حرائقها وحرائق الآخرين،تفتّش عن أشياء اخرى بلون الجمر او لون النساء او لون الحرية والإنعتاق..وهذه القصائد-التي قاربت بعضها-لا تخرج عن محاولات الشاعرة في التماس بنية نصها الحداثي المجبول على كشوفات الرؤيا الايقاع في تركيبة تزاوج بين شكل(تقطيع) وسردية حلمية تتكرر دائما..
ختاما،أؤكد أن قصيدة”خلخال يربك العدم” هي قصيدة غنائية تأملية،تقدم رؤية شعرية للأنثى/الإبداع كمحرك كوني قادر على مواجهة العدم والصمت بنغم الحياة والحب.استطاعت الشاعرة من خلالها،و ببراعة واقتدار وعبر توليفة فنية متآزرة من لغة مرهفة،وصور كونية حية،ورموز أسطورية معاد تشكيلها،وبناء درامي هادئ،أن تخلق نصا يحمل عمقاً فلسفياً في ثوب غنائي بديع.
إنها (القصيدة) دعوة مترعة بالجرأة والنغم الموسيقي الخلاب،للفعل الخلاق في عالم ينخره اليباب و-يملأه-الفراغ..! والشاعرة هنا،تمسك بمهارة بدفة القارب الشعري في محاولة للعبور نحو الضفاف المبتغاة..وهذا ما سيمهد السبيل الى أرض”معطاء” تليق ببذار القصيد القادم…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock