مسيلمة الكذاب

كتب:مصطفى نصر زهران
استفحل أمر مسيلمة الكذاب واشتد على المسلمين فقد اجتمع له أربعون ألف من قومه بني حنيفة, وظاهرهم نحو من عشرين ألف من الأحلاف, فكان جيشه أقوى جيش عرفه العرب حتى ذلك اليوم, وكان في الوقت نفسه يزيد أضعافًا مضاعفة على جيش خليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولم يكن الخطر اَلدَّاهِم الذي حَلَّ بالمسلمين آنذاك مقصورًا على مسيلمة الكذاب وجيشه اللَجب فقط, وإنما كان يبرز هذا الخطر أيضًا في المرتدين الآخرين, فقد رمى الصديق رضي الله عنه مسيلمة الكذاب بجيش يقوده عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه, لكن مسيلمة نكبهم نكبة أطارت صواب المسلمين.
هَزَّتْ هزيمة عكرمة رضي الله عنه ضمائر المسلمين هَزًّا, وفتحت عيونهم أكثر من ذي قبل على الخطب اَلدَّاهِم, وهب الخليفة لاستنقاذ الإسلام والمسلمين من هذا الخطر المُحيق فأخلى بعض الساحات من جند المسلمين, وتغاضى -إلى حين- عن المرتدين الذين أبوا دفع الزكاة, وذلك ليحشد لمسيلمة أكبر جيش يستطيع حشده, وليوفر لهذا الجيش أضخم طاقة تكفل له النصر بإذن الله.
كوَن الصديق جيشه من فيالق ثلاثة أولها: فيلق المهاجرين الذين كابدوا في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما كابدوا, وعانوا من أجل الدعوة ما عانوا, وبنوا بأيديهم صرح الإسلام لبنةَ لبنةَ, ومزجوا ترابها بالعرق والدموع.
وثانيها: فيلق الأنصار الأبرار الذين نصرُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآزروه ومنعوه, وحاربوا معه أعداء الله, فشهدت لهم الحروب بالبسالة والإقدام.
وثالثها: فيلق أبناء البوادي أصحاب القوة والبأس والنجدة.
ثم جعل في الجيش جمهرة من اَلْقُرَّاء حملة كتاب الله, وكان عليهم حريص وبهم ضنينًا, ثم ضم إليهم البدريين على الرغم من أنه كان يقول عنهم: لا أستعمل هذه النخبة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب, وإنما أستبقيهم لصالح الأعمال فإن الله تبارك وتعالى يدفع بهم من البلاء أكثر مما يأتي على أيديهم من النصر ثم عقد لواء الجيش لسيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه.
الْتقى الجمعان على أرض اليمامة فَصَفَّ مسيلمة جنوده بسهل عقرباء, وجعل وراء الجيش النساء, والأطفال, والأموال, وصفَ خالد جنوده في قبالة جيش عدوه, ووقف الجيشان يَتَرَبَّصَانِ الأمر بالهجوم الكاسح, وكان كل من الفريقين يرى عين اليقين أن هذه المعركة, إنما هي معركة فناء أو بقاء, اشتبك الطرفان وقاتل المرتدون بشراسة, وانصب بنو حنيفة على صفوف المسلمين انصباب الصخور, وتدفقوا عليهم تدفق السيل, وكانت كسر عظيما للمسلمين كادت أن تقضي عليهم, وأزيل خالد بن الوليد عن فسْطاطه, ووقعت زوجته أم تميم في قبضتهم , فهموا بقتلها لولا أن أجارها رجلا منهم.
تلقى خالد الصدمة رابط الجأش ثابت الجنان, فصاح في الجيش: امتازوا أيها الجند, امتازوا ليعلم بلاء كل فريق منكم, وليعرف المسلمون من أين أُتوا.
فجرت صيحة خالد بن الوليد حمية المسلمين لدين الله, وأججت أشواقهم إلى الاستشهاد في سبيل الله ورفعت عن أعينهم الحجب فرأوا قصور الجنة مفتحة الأبواب لاستقبال الشهداء, عند ذلك برزت في صفوف المسلمين بطولات لمْ تخطى يد التاريخ أجلَ منها وأعظم, وظهرت في جند الله بطولات لم تضم أسفاره أعز منها ولا أكرم.
وكان في طليعة هؤلاء الأبطال بطل هذه السطور الصحابي العملاق عبد الرحمن بن عبد الله ابن ثعلبة الأنصاري رضي الله عنه, فلنستمع إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فهو الذي سيروي لنا قصته الرائعة يوم اليمامة:
قال عبد الله بن عمر: لما اصطف المسلمون للنزال يوم اليمامة كان أبو عقيل الأنيقي يغلي كالمرجل, ويتوثب كالليث فما إن نشب القتال حتى جعل نحره دون نحور المسلمين, وأقام صدره دون صدورهم, فكان أول من أصيب بسهم في صدره.
لقد دخل السهم في صدر أبي عقيل واستقر بين كتفيه, فمد يده إلى السهم وانتزعه من بين كتفيه وثبت يقاتل حتى أوهن الجرح شقه الأيسر, ثم سالت دماؤه كشلال متفجر, ثم ما لبث أن خارت قواه, وسقط في مكانه مقبلاً غير مُدبر فاحتملناه إلى رحله وجعلناه فيه, وكان غير بعيد عن ساحة المعركة.
فلما حمى وطيس المعركة وتراجع المسلمون تحت ضغط قوات المرتدين سمع أبو عقيل البراء بن مالك ينادي: أين أنتم يا معشر الأنصار؟ أنا البراء بن مالك هلموا إِلَيَّ, فلم تجمع حوله نخبة من الأنصار, قال: يا أنصار الله, لا يفكر أحد منكم بالرجوع إلى المدينة, فلا مدينة لكم بعد اليوم, وإنما هو الله وحده ثم الجنة.
ثم رأى من خيمة العلاج معن بن عدي الأنصاري رضي الله عنه يكسر غمد سيفه ويثب إلى المقدمة, ويعلو مكان مرتفع ويصرخ: الله الله يا معشر الأنصار, الكرة الكرة على عدوكم يا من نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فتح أبو عقيل عينيه وكأن زلزالاً أصابه, فتحامل على ساقيه يريد الوقوف والوصول إلى سيفه.
فدنوت منه وقلت: ماذا تريد يا عم؟ فقال: ألم تسمع المنادي ينادي باسمي, فقلت: إنما يقول يا أهل الأنصار ولا يعني الجرحى, فقال لي: أنا من الأنصار وأنا أجبيه, والله ولو حبواً.
تحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى, وخرج وهو ينادي بصوت كالرعد: يا للأنصار كرة كيوم حنين, يا للأنصار كرةَ كيوم حنين فاجتمع الأنصار حوله وتراصوا, وتقدموا المسلمين, وتفانوا حتى أقحموا مسيلمة ومن معه حديقة الموت, وكان أبو عقيل عند باب حديقة الموت وقد قطعت يده من المنكب ووقعت على الأرض, وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها مُميتٌ, فوقفت عليه وهو صريع بآخر رمق وقلت: يا عم أبو عقيل, فقال بلسان مُلتاث: لبيك يا ابن أخي, ثم قال: لمن الهزيمة اليوم, فقلت: ابشر يا عم, فقد قتل عدو الله وعدو رسوله صلى الله عليه وسلم فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله عز وجل ويثني عليه, ثُمَّ لفظ آخر أنفاسه.
قال عبد الله بن عمر: فلما عدت إلى المدينة أخبرت أبي عمر بخبر أبي عقيل كله, فدمعت عيناه, وقال: رحم الله أبا عقيل رحمة واسعة, فإنه ما زال يسأل الله الشهادة, ويلح في طلبها حتى نالها ولقد كان من أخيار أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
لا شك في أن هذه التضحيات الضخمةَ التي قدمها هؤلاء الصحابة ومن والاهم, والمغامرات الجريئة التي خاضوها مع أولئك المرتدين كان لنتائجها الباهرة أبلغ الأثر في خضوع قبائل الجزيرة العربية لدولة الخلافة, فإن رؤوس زعماء هذه القبائل طغيان يرون بسببه أنهم أعلى شأنًا من ورثة النبوة, ولو أن هذه القبائل بايعت دولة الخلافة وفي رؤوس قادتها هذا الطغيان فإن الأمور لا تنتظم لدولة الخلافة, ولن تتوافر الطاعة التامة من جميع قبائل العرب على النحو الذي تم بعد حروب الردة في فتوح الشام والعراق.
الطبقات الكبرى لابن سعد الزهري ** الإصابة في تمييز الصحابة ** صفة الصفوة ** الاستيعاب في معرفة الأصحاب ** البداية والنهاية ** تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير ** أنساب الأشراف ** تاريخ الأمم والملوك ** الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار ** الوافي بالوفيات ** الكامل في التاريخ ** در السحابة في مناقب القرابة والصحابة ** إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون ** معجم الصحابة لابن قانع ** المعجم الكبير والأوسط للطبراني
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّض أَمْرِي إِلَى اَللَّه ۚ إِنَّ اَللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}









