تاريخ العرب

حصار عكا

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

كتب:مصطفى نصر زهران

كان الصليبيون في مدة مقامهم في حصار عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جِدًّا, طول كل برج منها خمس طوابق, كل طبقة مملوءة بعشرات الجنود الأشداء, وقد غشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها, وقدموها نحو عكا من ثلاث جهات, وزحفوا بها فأشرفت على السور, وقاتل من بها من عليه فانكشفوا وشرعوا في ردم خندقها, فكادوا أن يملكوا المدينة عنوة.
فقاتل السلطان صلاح الدين الصليبيين ثمانية أيام في بسالة نادرة وخفف ذلك عن حامية البلد, وقد قاوم المسلمين الأبراج بالنفط الطيار فلم يصنع شيئًا فأيقنوا بالهلاك, ولما أراد الله إنقاذ المسلمين من تلك الأبراج وفق شَابًّا من أهل دمشق يدعي علي وهو ابن عريف النحاسين في دمشق, وكان مولعًا بآلات النفط وتحصيل العقاقير التي تقوي عمل النار.
جاء هذا الشاب الدمشقي إلى السلطان صلاح الدين وعرض عليه فكرته وطلب منه أن يساعده لدخول إلى المدينة لمساعدة أهل عكا في فك الحصار, فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل بقيادة بعض الجند لتأمين وصول هذا الشاب إلى عكا, وبالفعل وصل الشاب الدمشقي إلى عكا, وأخذ يعمل على تنفيذ فكرته, ولما رأي الشاب الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما.
فلما فرغ منها جاء إلى والي عكا المجاهد الشجاع بهاء الدين قراقوش رحمه الله, وقال له: إن يأمر من يعمل على المنجنيق أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه, وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على المسلمين والبلد وما فيها ما يكاد يقتله فازداد غيظًا, فقال: قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمي بالنفط وغيره فلم يفلحوا, فقال له من حضر: لعل الله تعالى يجعل الفرج على يد هذا الشاب, ولا يضرنا أن نوافق الشاب على قوله.
فأمر قراقوش الرماة بامتثال لأمر الشاب فرمي عدة قدور نفطًا وأدوية ليس فيها نار, وكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئًا يصيحون ويرقصون ويلعبون على سطح البرج.
فلم علم الشاب أن الذي ألقاه تمكن من البرج فألقي قدرًا مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج, وأمر قراقوش وألقي قدرًا ثانية وثالثة فاضطرمت النار في نواحي البرج, فاحترق هو ومن فيه من الصليبيين, فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني والثالث, ومات من فيهما وهرب من هرب, وكان يومًا مشهودًا لم ير مثله, والمسلمون فرحين لنجاة المدينة من هذه الأبراج.
وحمل ذلك الشاب إلى السلطان صلاح الدين رحمه الله, فقال له: لقد أديت واجبك بأمانة وتكبدت في سبيل ذلك ما تكبدت, وقد وجب علينا حسن جزاؤك, وقد بذلت لك الأموال الجزيلة, والإقطاع الكثيرة, فقال الشاب الدمشقي: يا سيدي, والله ما فعلت ذلك من أجلك, وإنما فعلته لله رب العالمين, ولا أريد الجزاء إلا منه, وإني أنتظر جزائي يوم القيامة من الله العفو الكريم, فبكي السلطان صلاح الدين من كلام هذا الشاب المجاهد.
لقد أصبح هذا الشاب المؤمن المجاهد مِثَالاً عَمَلِيًّا للإخلاص لله عز وجل, فقد رفض كل ما كان من الممكن أن ينعم به جزاءً ما صنعه من عمل أفاد به الأمة, وقضى به على سلاح عدوها, وما كان ذلك ليصدر إلا عن عبد عرف الله تعالى ووثق في خير جزائه فاستغنى به عن إحسان من سواه.
لقد استفاد هذا الشاب الصالح وأمثاله بخير قدوة حيث ضرب صلاح الدين رحمه الله مثالاً للقائد الذي لا يتوارى أن يقدم ابنه فداءً إعلاء كلمة الله عز وجل, وقد تجلى ذلك عندما جعل صلاح الدين ابنه الأفضل على رأس الجند المرافقين للفتى الدمشقي حتى اخترقوا أسوار عكا ونفذوا إلى داخلها, بما في ذلك من خطر يحيط بابن السلطان, ولكن صلاح الدين لم يشغل باله بكونه سلطان المسلمين ولا أبا لولدها, وإنما أقدم على ما فعله ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
إن ما قام به هذا الشاب المبدع الماهر في الصناعة يعتبر أمرًا عظيمًا, وإنجازًا كبيرًا نصر الله تعالى به الإسلام, وَأُقِرَّ عيون المسلمين, وأذل به الصليبيين, وأُبطل مساعيهم.
المواعظ والاعتبار ** السلوك لمعرفة دول الملوك ** صبح الأعشى في صناعة الإنشا ** الكامل في التاريخ ** البداية والنهاية ** الروضتين في أخبار الدولتين ** التاريخ الإسلامي مواقف وعبر ** النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ** ذيل تاريخ دمشق
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّض أَمْرِي إِلَى اَللَّه ۚ إِنَّ اَللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock