كتاب وشعراء

السياسة اللغوية ونقد الخطاب التربوي في كتاب “في رحاب اللغة العربية….بقلم فراس حج محمد| فلسطين

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

مقدمة:
أعددتُ هذه المادّة بتقنية الذكاء الاصطناعي (Gemini) ليعيد قراءة الكتاب، هذا الكتاب الشامل لكل النواحي اللغوية التي أفكّر فيها، ولأرى أفكار الكتاب كما تعبّر عنه الخوارزميات الحاسوبية، وكيف تقرأ تلك الأفكار بشكل مستقل، حيث لا عاطفة تربطها بالمؤلف ولا باللغة العربية، فهي أداة تحليل ونقد محايدة، وباردة نسبياً.
إن ما دفعني لهذه الخطوة ليس فقط هذا العامل من التجريب التقني، وإنما أيضا ما مررت به من كتيب احتفال الدوحة بقاموسها التاريخي للغة العربية حيث الإعلان عن “اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية” وعقد “مؤتمر الذكاء الاصطناعي وخصائص اللغة العربية”، و”يسعى هذا المؤتمر إلى استكشاف العلاقة المركبة بين خصائص العربية والنماذج اللغوية الاصطناعية، سواء من حيث التحديات أو الإمكانات، في أفق بناء منظومة معرفية عربية متكاملة في مجال الذكاء الاصطناعي اللغوي”.
واشتمل هذا الكتيّب المكوّن من ثلاث وسبعين صفحة على ملخص الأوراق البحثية التي سيقدمها الدارسون والأكاديميون والباحثون على مدار يومين: الثاني والعشرين والثالث والعشرين من شهر ديسمبر (2025)، ولا أظنّ أن انعقاد المؤتمر والاحتفالية بعيد عن الاحتفال بيوم اللغة العربية العالمي، وإن لم ينصّ الكتيّب على ذلك.
إنني أنتهز هذه الفرصة لإعادة التعريف بكتاب “في رحاب اللغة العربية” الصادر عن دار بدوي في ألمانيا عام 2023، ويقع في (246) صفحة، وكذلك الاحتفال بيوم اللغة العربية العالمي، ومواكبة ما يستجدّ على هذه اللغة من أبحاث وتطورات، لا سيما ربطها بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومدى الاستفادة من الخوارزميات الحاسوبية وتطويعها لتكون في خدمة اللغة العربية، وخاصة أن المعجم بشكل عام يمثل لأي لغة مصدرا من مصادر لغتها وألفاظها ومعاني مفرداتها، فكيف إذا كان هذا المعجم تاريخي كمعجم الدوحة وهو كذلك متوفر إلكترونياً، لتسهيل مهمات البحث والاستفادة منه، وهو بالفعل كذلك، فقد كان هذا المعجم في السنتين الأخيرتين خير معين لي في كثير من الأبحاث اللغوية والأدبية والمقالات النقدية التي أنجزتها، فقد كان الأفضل لي من المعاجم القديمة القاصرة في دلالة الألفاظ بحكم الزمن، وأفضل من المعاجم المعاصرة التي تميل إلى الاختصار في عرض معنى الألفاظ وبيانها، وفي هذا السياق أشير إلى أن أساتذة الجامعات كانوا يصرّون على أن يعود طلبتهم في أبحاثهم إلى المعاجم القديمة، ولا يعترفون بما يقدمه معجم الدوحة التاريخي من خدمات توثيقية متقدمة، فيعدلون ويستبدلون بالجديد المتطور القديم الثابت شبه الجامد.
لقد عنون الذكاء الاصطناعي تحليله للكتاب بهذا العنوان: “السياسة اللغوية ونقد الخطاب التربوي في كتاب في رحاب اللغة العربية”. لقد جاء المُنْتَج التحليلي بعناوين كثيرة تفريعية، تخلصتُ منها، وحذفتُ بعض الفقرات التي لم تكن دقيقة، كما أنني حذفت تلك المراجع التي اعتمدتها الأداة التقنية على كتابة هذا التحليل، وبلغت (24) مرجعاً؛ موقعاً إلكترونياً، بالإضافة إلى الكتاب نفسه الذي أرفقته بطلب التحليل، وكان على النحو الآتي:
“هذا كتاب “في رحاب اللغة العربية” للكاتب فراس حج محمد، أرجو أن تعد دراسة تحليلية حول الكتاب، لنشرها بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، على أن تكون ذات طابع بحثي وأكاديمي رصين، وإذا استطعت، ادعم الدراسة بشواهد معرفية ذات صلة بأفكار الكتاب الأساسية، أو إعلامية وصحفية تخص نشر الكتاب، ومناسبة تأليفه، وردود الأفعال عليه، ومن ثَمّ تقييمه”.
وهذه كانت الإجابة:
تمثل اللغة العربية في الوعي الجمعي العربي والممارسة الحضارية ركيزة أساسية للهوية، لا بوصفها مجرد أداة تواصلية، بل بوصفها مستودعاً فكرياً وشعورياً ينصهر فيه الفرد داخل مجموعته الإنسانية، وفي ظل التحديات المعاصرة التي تواجه اللسان العربي، يأتي كتاب “في رحاب اللغة العربية” للباحث والناقد الفلسطيني فراس حج محمد، الصادر في عام 2023، ليقدم رؤية نقدية وبحثية شاملة تشتبك مع قضايا اللغة في أبعادها الثقافية، والتعليمية، والسياسية.
ويتزامن هذا العمل مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي يوافق الثامن عشر من ديسمبر، وهو التاريخ الذي يؤرخ لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 بجعل العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة الدولية، وبناءً على الشعار الذي رفعته اليونسكو لعام 2023 “العربية: لغة الشعر والفنون”.
ينطلق فراس حج محمد في أطروحته من فرضية أن اللغة العربية ليست مجرد قواعد جافة، بل هي “لغة علوم متنوعة وحضارة إنسانية عريقة وإبداع أدبي وفني ساحر”. ويرى الباحث أن الهوية عامل انصهار فكري وشعوري، واللغة هي المكون الأبرز في هذه العملية، لا سيما في المجتمعات العربية التي استطاعت التعايش مع الآخر المختلف دون أن تفقد أصالتها، وفي الحالة الفلسطينية تحديداً، تأخذ اللغة بعداً سياسياً حاداً؛ حيث لا يقف الاحتلال عند حدود السيطرة على الأرض، بل يتعمد “احتلال اللغة وقولبتها ومحو كل أثر عربي عبر عبرنة الأسماء والثقافة”.
يبرز الكتاب الجانب الرياضي المقعّد في قوانين اللغة العربية، كاشفاً عن منطقيتها التي لا تتخلف في الأصوات، والصرف، والنحو، والدلالة. ويؤكد البحث أن الوعي اللغوي هو حجر الزاوية في بناء الشخصية العربية، وهو ما يفسر حرص المؤلف على تقديم مادته بأسلوب تفاعلي يجمع بين التجربة الذاتية كمعلم ومشرف تربوي وبين التحليل الأكاديمي الرصين.
يخصص الباحث الفصل الأول من كتابه لسبر أغوار المعجم العربي، مبيناً الفوارق بين المعاني المعجمية الرسمية والمعاني الاجتماعية الشائعة في الكلام العامي، هذا الرصد لا يقف عند حدود التوصيف، بل يغوص في فلسفة تطور الدلالة، وكيف تبني اللغة نظام تداولها الخاص.
يحلل المؤلف لفظ “الزعل”، مشيراً إلى أن المعجم يربطه بالنشاط أو التضور من الجوع، بينما المعنى المتداول “الغضب” هو معنى مولد لم تعرفه العرب الأوائل بهذا التخصيص، أما “الحرد”، فيربطه الباحث بالقصد والاعتزال، مستشهداً بالآية القرآنية “وغدوا على حرد قادرين”، ويبرز التحليل كيف خصصت اللغة الشعبية “الحرد” للنساء اللواتي يغضبن فيعتزلن، وكيف تلاعبت الأغنية العربية الشعبية بهذه المفردات، مثل أغاني جواد العلي ومحمد عبده؛ لتبني علاقة طردية بين الزعل والمحبة.
ويقدم الباحث نقداً حاداً للفهم الشعبي والقدري للفظ “الدنيا”، الذي يربطها بالدناءة والاحتقار، ويؤكد التحليل اللغوي والقرآني أن الدنيا هي “الحياة القريبة” مقابل “الآخرة البعيدة”، وأنها محل الاستخلاف الإنساني العظيم. ويرى المؤلف أن هذا الانحراف المعنوي قد يكون نتاجاً لتحكم سياسي تاريخي يهدف لإبعاد الناس عن الانشغال بالواقع والحكام، مما أدى إلى وعي لغوي مشوه يعطل سنن العمل وعمارة الأرض.
كما يتناول البحث في هذا الباب لفظ “الساعة”، مشيراً إلى الجناس التام في القرآن الكريم “ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة”، هذا الجناس يبرز مفارقة بين الأعظم (القيامة) والأهون (الوقت اللحظي)، مما يؤكد أن الزمان في ميزان اللغة والوجود هو أعظم الأصول التي يمتلكها الإنسان، كما يربط المؤلف بين ضياع “الساعة” في رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” وبين ضياع المستقبل والسيطرة، مستنبطاً أن الاستيلاء على الساعة هو رمز للتحكم في المصير.
وفي لفتة لغوية طريفة وعميقة، يربط الباحث بين هذه المصطلحات الثلاثة (التياسة والسياسة والكياسة)، موضحاً أن “التياسة” في المعجم تعني التذليل والرياضة (تيّس فلاناً أي راضه)، وهي تلتقي مع “السياسة” في معنى التدبير والإصلاح (ساس الدواب أي أدّبها)، وكلاهما يحتاج إلى “الكياسة” التي هي الفطنة والذكاء، وينتقد المؤلف قلب العامة للمعنى وتحويلهم “التياسة” إلى ذم خالص يشير إلى الغباء، في حين أن أصلها اللغوي يشير إلى القدرة على المدافعة والترويض.
ينتقل فراس حج محمد في الفصل الثاني لمناقشة تمظهرات اللغة في الفعل الثقافي، متخذاً من الشعر والترجمة ووسائل التواصل الاجتماعي محاور للدراسة، ويعتبر الباحث قصيدة “اللغة العربية تنعى حظها” (1903) نصاً خالداً تجاوز حدود الزمان والمكان، ويرجع سر ذيوعها إلى “صنعة الشاعر المتمكن” الذي استخدم تقنية التشخيص، فجعل اللغة فتاة مقهورة تستصرخ نخوة رجالها، ويرى المؤلف أن القصيدة تمثل الموقف الكلاسيكي والديني والشعبي في مواجهة دعوات التغريب واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، ويدعم الدراسة بمعارضات شعرية معاصرة، منها قصيدته الشخصية التي جاءت على لسان اللغة أيضاً، تأكيداً لامتداد هذا الوعي القومي اللغوي.
ويطرح المؤلف رؤية نقدية للترجمة، معتبراً إياها “سلسلة من المفاوضات بين الثقافات”. ويناقش مقولة “المترجم خائن”، موضحاً أن الخيانة هنا ضرورية لأنها تتعلق بفقدان “الحرارة الساكنة في أوصال النص” الأصلي، ويشيد بتجربة المترجم الفلسطيني صالح علماني، معتبراً إياه كاتباً ثانياً للنص المترجم، حيث يثق القارئ بلغة المترجم وأسلوبه لدرجة تجعله يقرأ ماركيز بروح علماني. ويرى الباحث أن الترجمة الناجحة هي التي تُنسي القارئ أنه يقرأ كتاباً مترجماً، مما يعيد الاعتبار للمترجم كشريك في الإبداع وليس مجرد وسيط لغوي.
ويرصد الكتاب بدقة كيف تعيد الأحداث الكبرى بناء لغة العالم. في جائحة كورونا، تشكل “معجم كوروني” (حجر، كمامة، تباعد اجتماعي)، ويحلل الباحث ما يسميه “سينوغرافيا المشهد اللغوي”، حيث تحولت اللغة إلى أداة إخراج لمسرحية واقعية مأساوية توحد فيها العالم لغة وصورة، ويبرز التحليل قدرة العربية على تعريب المصطلحات الطارئة وإخضاعها للاشتقاق (مثل فعل “مكورن”)، مما يثبت أن اللغة حياة تتوسع وتستوعب الجديد تلقائياً.
يمثل الباحث فراس حج محمد نموذجاً للمثقف العضوي الذي يشتبك مع واقعه المهني، ومن خلال موقعه مشرفاً تربوياً، يقدم في الفصل الثالث والرابع نقداً منهجياً لآليات تعليم اللغة العربية في المدارس الفلسطينية، وينتقد المؤلف تكرار الأمثلة الساذجة في دروس النحو، معتبراً أن “أكل الولد التفاحة” و”كتب الطالب الدرس” جُمل سقيمة لا تنمي ذوقاً ولا فكراً، ويقترح بدلاً من ذلك “التوظيف اللغوي الهادف” الذي ينطلق من بيئة الطالب وتفكيره الناقد، بحيث يتعرف الطالب على “الشيفرة المعنوية” للنص قبل الوقوف على إعراب مفرداته، ويرى أن تعليم النحو يجب أن يكون وسيلة لإصلاح اللسان وليس غاية للمباهاة والمماحكات الإعرابية.
ويؤكد الباحث أن اللغة العربية “قانون لا يتخلف أبداً”، ويظهر ذلك في الجانب الرياضي المقعّد لقواعدها، ويستشهد بجهود الخليل بن أحمد الفراهيدي في “نظام التقليبات” القائم على الاحتمالات الرياضية والتوافيق لاستقصاء الألفاظ. ويرى المؤلف أن فهم هذا المنطق الرياضي يساعد المعلمين والطلبة على رؤية العربية بناء هندسياً متكاملاً، مما يزيل رهبة القواعد ويحولها إلى نشاط ذهني ممتع.
ويرصد المؤلف “فوضى عارمة” في استخدام علامات الترقيم لدى الكتّاب المعاصرين، وفي المناهج المدرسية، وينتقد بشكل خاص ظاهرة “الصراخ الترقيمي” المتمثلة في رش علامات التعجب بغير حساب، أو استخدام النقطتين المتجاورتين دون هدف واضح، ويؤكد أن علامة الترقيم هي للأسلوب اللغوي، وليس للمعنى النفسي فقط، داعياً للعودة إلى القواعد الرصينة التي وضعها الرواد مثل عبد العليم إبراهيم وأحمد زكي باشا.
كما يقدم الباحث دراسة صرفية ونحوية معمقة حول الاسم الممنوع من الصرف، واصفاً إياه بأنه يقع في منزلة وسطى بين “المتمكن الأمكن” (المصروف) و”المبني”، ويناقش الحالات التي يعود فيها الممنوع من الصرف إلى حظيرة الصرف مثل التثنية، الجمع، النسب، التنكير، موضحاً أن هذه الحالات تعكس مرونة النظام اللغوي العربي وقدرته على التكيف مع المقتضيات الصوتية والمعنوية.
وفي الفصل الرابع، يمارس المؤلف دوراً نقدياً حاداً تجاه المقررات الفلسطينية، مستنداً إلى معايير تربوية وعلمية دقيقة، ويمثل نقد المؤلف لقصيدة “أنا وليلى” (للشاعر حسن المرواني) أحد أبرز محطات الكتاب إثارة للجدل، ويرى الباحث أن وجود هذه القصيدة في المنهاج “سقطة كبيرة” لعدة أسباب:
● البعد التربوي: القصيدة نص “مغلق على مشاعر الإحباط وتحقير الذات”، وهو ما لا يتناسب مع الخصائص النمائية لطلبة في مقتبل العمر، حيث قد تدفعهم لمشاعر سوداوية ويأس عاطفي.
● القيمة الفنية: يراها قصيدة رديئة فنياً، ذات معجم لغوي غير ثري، وتفتقر للبناء الفلسفي المتصاعد.
● التصنيف النقدي: يرفض تصنيفها ضمن “الغزل”، معتبراً إياها “رثاء نفس” مبالغاً فيه، مما يشوش الوعي النقدي لدى الطلاب حول أغراض الشعر العربي.
ويخلص الباحث إلى أن اختيار النصوص في المناهج يجب ألا يخضع للذوق الشخصي للمؤلفين، بل لمعايير تربوية تنمي قيم الحق والخير والجمال.
وينتقد المؤلف وصف قصيدة حسان بن ثابت في رثاء النبي- صلى الله عليه وسلم- “بطيبة رسم للرسول ومعهد” بأنها من “المديح النبوي” في الكتب المدرسية، ويوضح أن “المديح النبوي” فن نشأ متأخراً في العصر المملوكي وله خصائص توسلية معينة، بينما قصيدة حسان هي “رثاء” خالص يعبر عن الحزن والفقد، ويرى أن هذا الخلط يضرب القاعدة المنهجية للمعرفة التأصيلية لدى المتعلم.
ويدافع الباحث عن وجود “النجمة السداسية” في أحد دروس الكتب المدرسية، منتقداً جهل المعلمين الذين اعتبروها رمزاً للمحتل، ويؤكد، مستشهداً بآراء الدكتور أحمد البرقاوي، أن النجمة السداسية هي “نجمة كنعان” السورية القديمة ورمز للخصب والوحدة بين الذكر والأنثى، وأن الحركة الصهيونية اغتصبت هذا الرمز كما اغتصبت الأرض، ويدعو المؤلف لاسترداد الرموز الثقافية الفلسطينية وتصحيح الوعي التاريخي واللغوي حولها.
يختتم الباحث كتابه بدراسة أكاديمية معمقة حول أبي العباس المبرد وكتابه “الكامل في اللغة والأدب”، ويرى فراس حج محمد أن “الكامل” هو أحد أركان الأدب العربي الأربعة مع الأمالي لأبي علي القالي، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، ويمتاز كتاب الكامل بكونه كتاباً تطبيقياً يجمع بين الإمتاع الأدبي والتحليل اللغوي، ويحلل الباحث شخصية المبرد النحوية، مشيراً إلى استقلاله في الرأي ومخالفته أحياناً لأئمة البصرة مثل سيبويه وتوافقه مع الكوفيين، مما يعكس مرونة الفكر اللغوي في تلك الحقبة.
ويرصد المؤلف تداخل المصطلحات عند المبرد (مثل استخدام “الخفض” بدلاً من “الجر”، و”المصدر” بدلاً من “المفعول المطلق”)، معتبراً أن ذلك يعكس مرحلة “مخاض علمي” لتشكل المصطلح النحوي، ويشيد بمنطقية المبرد في ترتيب المعرب والمبني والممنوع من الصرف بناءً على “التمكن” في الإعراب، مما يعزز فكرة “رياضيات اللغة” التي يتبناها المؤلف طوال الكتاب.
إن دراسة كتاب “في رحاب اللغة العربية” تفضي إلى ضرورة تبني استراتيجية لغوية وطنية شاملة تتجاوز حدود الغرف الصفية، ويمكن إجمال أهم التوصيات والنتائج المستخلصة في النقاط الآتية:
اللغة كائن منطقي: تأكيد “منطقية اللغة العربية” وضرورة تعليمها كنشاط ذهني رياضي ينمي التفكير، وليس كقوالب حفظ جامدة.
إصلاح المناهج: ضرورة إخضاع المقررات الدراسية لتحكيم علمي وتربوي صارم، يراعي الخصائص النفسية للطلبة ويحمي الهوية الوطنية من “العبرنة” والتشويه.
الحرية اللغوية: دعم حق الباحثين في نقد المناهج والسياسات التربوية، فالاختلاف النحوي والعلمي هو “ظاهرة صحية” تثري الوعي الجمعي.
اللغة والإعلام: ضرورة التزام الكتاب والمدونين بالصحة اللغوية واستخدام علامات الترقيم بشكل منضبط، وعدم الاستهانة بالتدوين الرقمي باعتباره “الواجهة المعاصرة” للغة.
استرداد الرموز: الوعي بأن الصراع مع المحتل هو صراع على “الرواية والرمز”، مما يستوجب حماية المصطلحات اللغوية (مثل جدار الضم والتوسع) والرموز الحضارية الكنعانية.
وأخيراً، يمثل كتاب “في رحاب اللغة العربية” لفراس حج محمد وثيقة معرفية وإصلاحية بالغة الأهمية، فقد استطاع الباحث أن يخرج اللغة العربية من “سجن القواعد” إلى “فضاء الحياة”، رابطاً إياها بالأغنية، والسياسة، والترجمة، وحتى الجوائح العالمية. إن الكتاب دعوة صريحة للثورة على “نظام التفاهة” اللغوية والنمطية التعليمية، والعودة إلى “اللسان المبين” الذي هو نصف الفتى ونصف فؤاده.
وبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، يقدم هذا العمل برهاناً جديداً على أن اللغة العربية لغة حية قوية، قادرة على التوسع والخلود، طالما وجدت من يدافع عنها بـ “كياسة وسياسة”، ويظل تقييم الكتاب إيجابياً جداً كونه يجمع بين عمق التخصص الأكاديمي وجرأة الناقد المثقف، مما يجعله مرجعاً لا غنى عنه للمكتبيين، والمعلمين، وكل عشاق الضاد في “يومها المجيد”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock