حرب الرده

كتب:مصطفى نصر زهران
تبدأ هذه القصة منذ الساعات الأولى لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى حيث طفقت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجًا كما دخلت في هذا الدين أفواج, حتى لم يبق على الإسلام إلا أهل المدينة, ومكة, والطائف, وقرية هاجر باليمن, وجماعات متفرقة هنا وهناك ممن ثبت الله على الحق قلوبهم.
لما ارتد من ارتد من جزيرة العرب أطلت الفتنة برأسها, وتحركت كالسيل الجارف تريد محو معالم هذا الدين المبارك, هنا أنتفض خليفة رسول الله الصديق رضي الله عنه وصمد لهذه الفتنة المدمرة العمياء صمود الجبال الراسيات, وجهز من المهاجرين والأنصار أحد عشر جيشًا, ودفع بهم في أرجاء جزيرة العرب ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى والحق, وليحملوا المنحرفين على الصراط المستقيم.
كان أقوى المرتدين بأسًا وأكثرهم عددًا بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب, فقد اجتمع لمسيلمة من قومه وحلفائهم خمسة وأربعون ألفًا من أشد المحاربين, وكان أكثر هؤلاء قد اتبعوه عصبية له لا إيمان به, فقد كان بعضهم يقول: أشهد أن مسيلمة كذاب, ومحمدًا صادق, لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.
أرسل الصديق الجيش الإسلامي بقيادة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه لمواجهة مسيلمة لكنه هزم, فأرسل له الصديق جيشًا ثانيًا بقيادة خالد بن الوليد حشد فيه وجوه الصحابة من الأنصار والمهاجرين, وكان في طليعة هؤلاء الفدائيين البطل الجسور البراء بن مالك رضي الله عنه, ونفر من أبطال الإسلام المغاوير.
وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الإسلام تحت إمرة خالد تتهيأ للنزال, وقف يتلمظ مستبطنا تلك اللحظات التي تمر كأنها السنون, قبل أن يُصدر القائد أمره بالزحف, وعينيه الثاقبتين تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل, أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية.
ناد خالد: الله أكبر, فانطلقت الصفوف المرصوصة إلى مقاديرها وانطلق معها عاشق الشهادة إلى صفوف العدو وراح يجندل أتباع الكذاب بسيفه, وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه, وكان بأعداده, وبعتاده, وباستماته مقاتليه, خطر يفوق كل خطر, ولقد أجابوا على هجوم المسلمين بمقاومة تناهت في العنف حتى كادوا يأخذون زمام المبادرة وتتحول مقاومتهم إلى هجوم كاسح.
وبالفعل فما وهو إلا قليل حتى رجحت كفة تحالف الردة وزلزلت الأرض تحت أقدام جنود المسلمين, وطفقوا يتراجعون عن مواقعهم أمام هذا الطوفان الجارف حتى اقتحم المرتدون أصحاب الكذاب خيمة القائد العام للجيش الإسلامي خالد واقتلعوها من أصولها, وكادوا يقتلون زوجته لولا أن أجارها واحدا منهم -يدعى مجَاعة وهو من قادة بني حنيفة, وكان خالدا قد أسره قبل المعركة وأحسن إليه-.
عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم وأدركوا أنهم إن هزموا أمام مسيلمة وجموعه فلن تقوم للإسلام قائمة بعد اليوم, ولن يعبد الله وحده لا شريك له في جزيرة العرب, هنا هب خالد إلى جيشه فأعاد تنظيمه, حيث ميز المهاجرين عن الأنصار, وميز أبناء البوادي عن هؤلاء وهؤلاء, وجمع أبناء كل أب تحت راية واحد منهم ليعرف بلاء كل فريق في المعركة, وليعلم من أين يُؤتى الجيش.
دارت بين الفريقين رحى معركة ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظيرًا من قبل, وثبت قوم مسيلمة في ساحات الوغى ثبات الجبال الراسيات ولم يهتموا ولم يلتفتوا لكثرة ما أصابهم من القتل, وأصبح العراك مهلكا شديدا في كل أرجاء ميدان المعركة على الطرفين, لكن أبدى المسلمون من خوارق البطولات ما لو جمع لكان من أروع صفحات البطولة عبر التاريخ, ولقد كان من هؤلاء الأبطال مثل ثابت بن قيس, وزيد بن الخطاب, وسالم مولى أبا حذيفة, وأبا حذيفة وغيرهم, ولكن بطولات هؤلاء جميعًا تتضاءل أمام بطولة البراء بن مالك رضي الله عنه.
ذلك أن خالد حين رأى وطيس العراك يحمى ويشتد التفت إلى البراء بن مالك, وقال: إليهم يا فتى الأنصار تكلم يا براء, فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة والقوة فقال: يا معشر الأنصار, لا يفكر أحد منكم بالرجوع إلى المدينة فلا مدينة لكم بعد اليوم, وإنما هو الله عز وجل والجنة.
نعم يا سادة وإنما هو الله والجنة, كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله ففي هذا الموطن, لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر حتى عاصمة الإسلام المدينة, والبلد الذي خلَفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم, لا ينبغي أن يفكروا فيها, لأنهم إذ هُزموا اليوم فلن تكون هناك مدينة ولا إسلام.
سرت كلمات البراء بين المسلمين ومضى وقت وجيز حتى عادت المعركة إلى نهجها الأول, لقد حمل البراء على المرتدين وحمل المسلمون معه وانبرى رضي الله عنه يشق الصفوف, ويضرب بسيفه رقاب أعداء الله حتى زلزلت أقدام المرتدين, فلجئوا إلى الحديقة التي عرفت في التاريخ بعد ذلك باسم حديقة الموت لكثرة من قتل فيها في ذلك اليوم.
كانت حديقة الموت هذه رحبة الأرجاء عالية الجدران, فأغلق مسيلمة والآلاف المؤلفة من جنده عليهم أبوابها وتحصنوا بعالي جدرانها, وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها فتتساقط عليهم تساقط المطر.
عند ذلك تقدم مغوار المسلمين الباسل البراء بن مالك رضي الله عنه, وقال: يا معشر المسلمين, ضعوني على ترس, وارفعوا الترس على الرماح ثم اقذفوني إلى الحديقة قريبًا من بابها, فإما أن استشهد, وإما أن أفتح لكم الباب.
ألم أقل لكم يا سادة, إنه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة, ولقد تُصَوَّر في هذه الخطة خير ختام لحياته, وخير صورة لمماته فهو حين يقذف به إلى الحديقة يفتح للمسلمين بابها, وفي نفس الوقت تناوشه سيوف المرتدين وتمزق جسده, وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها, وتفتح لاستقبال عريس جديد مجيد, فهل حدث له ما يريد من شهادة.
في لمح البصر جلس البراء على ترس فقد كان ضئيل الجسم نحيله, ورفعته عشرات الرماح فألقته في حديقة الموت بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة, فنزل عليهم نزول الصاعقة وما زال يجالدهم أمام باب الحديقة, ويعمل في رقابهم السيف حتى قتل عشرة منهم وفتح الباب, وبه بضع وثمانون جراحة من بين رمية بسهم أو ضربة بسيف, فتدفق المسلمون على الحديقة من حيطانها وأبوابها وأعملوا السيوف في رقاب المرتدين اللائذين المحتمين بجدرانها, حتى قتلوا منهم قريبًا من عشرين ألفًا ووصلوا إلى مسيلمة فأردوه صريعًا.
وحمل البراء بن مالك إلى رحيله ليداوي فيه, وأقام عليه خالد بن الوليد شهرًا يعالجه من جراحه حتى أذن الله له بالشفاء, وكتب لجند المسلمين على يديه النصر.
انتهت المعركة بانتصار ساحق للمسلمين ورغم جهاد البراء وتعرضه للمخاطر لينال شرف الشهادة, إلا أنه لم يظفر بها في هذه الموقعة صحيح أن جسد البطل تلقَى يومئذ من سيوف المرتدين بضعًا وثمانين ضربة, أثخنته ببضع وثمانين جراحة حتى لقد ظل بعد المعركة شهرًا كاملاً يعالج, ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى, وقد صدق الله تعالى: { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ( الرعد: 38 ).
ومع هذا فلقد كان على علم ويقين بأن الله تعالى لن يحرمه شرف الاستشهاد في ساحات الوغى, فالله تعالى لا يخيب رجاء من دعاه.
في هذا الخبر موقف فدائي كبير لبطل الإسلام البراء بن مالك رضي الله عنه فإن الأعداء لما أغلقوا على أنفسهم باب الحديقة طلب البراء من المسلمين أن يحملوه وأن يلقوه عليهم في الحديقة, فحملوه فوق التروس ودفعوها بالرماح حتى ألقوه على الأعداء من فوق السور, فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه.
وإن المتأمل لهذا الموقف العظيم يتملكه العجب ويندهش من إقدام هذا البطل الكبير على تنفيذ هذه الخطة الفدائية فإن أي فرد يلقي بنفسه وسط الأعداء سيتصور الموت قتلاً بأبشع أنواع القتل, فهل كان البراء بن مالك يتصور ذلك وهو يلقي بنفسه؟ نعم كان يتوقع ذلك, ولكنه من قوم تهون أنفسهم في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى, وقد أقدم على هذا الأمر الهائل ابتغاء الظفر بالشهادة وفتح الباب للمسلمين, فإن تم له ذلك وإلا فإن هذا مواطن من المواطن التي تُطلب فيها الشهادة.
فلندع هذا التصور ولنتأمل في نتيجة هذا الموقف, كيف استطاع وحده أن يُجلي الأعداء وأن يفتح الباب؟ وكيف سلم من سلاح المرتدين؟ لا شك عندي في أن هذه كرامة من كرامات الله تعالى لأوليائه المؤمنين لأن سلامته وقد أحاط به الأعداء على هذه الصورة من الأمور الخارقة للعادة, وقد ثبت أن الملائكة عليهم السلام يقاتلون مع المؤمنين في المعارك, فلعل الملائكة كانوا معه في هذه المعمعة إما بالقتال والحماية أو بالحماية فقط حتى أنجز هذه المهمة الخطيرة.
لقد أَطَلَّ على الأعداء شبح مخيف ربما ظنوا أنه من عالم آخر إذ يبعد أن يصل البشر العاديون إلى هذه الشجاعة الفائقة, والمقدرة الخارقة, فلذلك فسحوا له المجال لذهولهم من نزوله المفاجئ, وكان بإمكانهم أن ينتظموه وهو في الهواء برماحهم, فلما هبط إلى الأرض قاتلهم حتى أجلاهم عن الباب, ويبدو أنهم قد أصيبوا منه برعب عظيم مما جعل مقاومتهم إياه ضعيفة, واستطاع أن يتغلب عليهم في النهاية وأن يفتح الباب بمشهد منهم.
وهكذا فتح الباب فاندفعت جحافل الحق الهادرة لتقضي على جحافل الباطل المبهوتة, وكان البراء بن مالك من أسباب تمكين المسلمين من أعدائهم, وقد تأسى به بعض جنود الحق لما لم يتسع لهم الباب فعلوا على الأسوار وهبطوا علي أعدائهم كالصواعق المحرقة.
الطبقات الكبرى لابن سعد ** السنن الكبرى للبيهقي ** سير أعلام النبلاء ** مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ** حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ** التاريخ الإسلامي مواقف وعبر ** تاريخ الأمم والملوك ** الكامل في التاريخ ** تلقيح فهوم الأثر في عيون التاريخ والسير ** المنهج شرح صحيح مسلم ** معجم الصحابة للبغوي ** الوافي بالوفيات ** تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ** تاريخ دمشق لابن أبي زرعة ** إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون ** الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّض أَمْرِي إِلَى اَللَّه ۚ إِنَّ اَللَّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}









