د. فيروز الولي تكتب:حين تسقط الدولة لأن الميزان انكسر

وطن بلا ناطق باسم الله
كان حزب المؤتمر الشعبي العام، في زمنٍ ما، حزب دولة أكثر منه حزب عقيدة. لم يكن أعضاؤه ناطقين باسم السماء، ولا يحملون مفاتيح الجنة في جيوبهم، بل رجال سياسة تُجادلهم، تُفاوضهم، تُتعبك المتابعة معهم، نعم… لكنك في آخر الطريق تحصل على حقك. الوظيفة العامة لم تكن منحة إلهية، بل استحقاقًا إداريًا يُنتزع بالصبر والملف والمتابعة. كان ذلك زمنًا يُشبه الدولة، أو على الأقل يتظاهر بها بإتقان.
ثم جاء زمن الحوثي، فتَبَخَّر الوطن كما يتبخر الماء على صفيح أيديولوجي ساخن. لم يسقط لأن الخصم قوي فقط، بل لأن الداخل كان هشًا، مُنهكًا، ومُصابًا بنقصٍ قديم اسمه: اختلال الميزان الاجتماعي والسياسي.
أولًا: التحليل النفسي – عقدة النقص حين تحكم الدولة
علي عبدالله صالح لم يكن يبني دولة بقدر ما كان يُدير قلقه. عقدة النقص قادته إلى استقدام المتعلمين والمثقفين إلى دائرة القرار، لا إيمانًا بالكفاءة، بل خوفًا من أن يتركهم خارج الأسوار فيتحولوا إلى خصوم. في المقابل، تم تهميش قطاعات واسعة: شباب، قبائل، محافظات كاملة. لم يكن الإقصاء خطة مكتوبة، بل عادة نفسية: من لا يطمئن له الحاكم، يُبعده.
هكذا تتحول الدولة إلى عيادة نفسية مغلقة، تُدار بالهواجس لا بالمؤسسات.
ثانيًا: التحليل الاجتماعي – مجتمع خارج الصورة
حين تُغيب بكيل، وتُختصر القبيلة في مشايخ الولاء، وتُهمَّش حضرموت وشبوة وتهامة والمحويت وحجة، فأنت لا تُدير تنوعًا، بل تُراكم قنبلة. المجتمع الذي لا يرى نفسه في الدولة، سيتعرف عليها لاحقًا كعدو. وعندما يدخل الحوثي، يجد فراغًا اجتماعيًا جاهزًا للملء: مظالم، تهميش، شعور باللاجدوى.
الدولة التي لا تتسع للجميع، لا يبقى منها شيء للجميع.
ثالثًا: التحليل الثقافي – من دولة موظفين إلى دولة شعارات
قبل هذا التحول، لعب تقريب مشائخ حاشد وحزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) إلى قمة هرم السلطة دورًا حاسمًا في كسر فكرة الدولة المتوازنة. لم يكن التقريب شراكة وطنية بقدر ما كان تحالف خوف ومصالح: مشائخ يُستدعون لضمان الولاء القبلي، وإصلاح يُستوعب لضبط الشارع الديني. النتيجة؟ دولة تُدار بعصبين: قبلي مؤقت، وديني انتهازي، فيما تُركت بقية المكونات خارج الحساب.
هذا القرب لم يُنتج استقرارًا، بل صنع احتكارًا ناعمًا للنفوذ، ورسّخ شعورًا عامًا بأن الطريق إلى الدولة يمر عبر الشيخ أو الحزب، لا عبر الكفاءة والقانون.
المؤتمر، رغم فساده، حافظ على ثقافة “المعاملة” و”الملف” و”الدور”. الحوثي ألغى كل ذلك، واستبدله بثقافة “السيد” و”المشرف” و”الصرخة”. انتقلنا من دولة أوراق إلى دولة لافتات. من ثقافة حق قابل للنقاش، إلى ثقافة هبة تُمنح لمن يهتف أفضل.
هنا ماتت الفكرة الوطنية، لا برصاصة، بل بخطبة.
رابعًا: التحليل السياسي – قيادات بلا وطن
زاد الطين بلّة اعتماد إدارة الدولة فعليًا على محافظتين فقط: إب وتعز. تم تدوير النخب الإدارية والسياسية من هاتين المحافظتين في مفاصل الدولة، حتى صار الوطن وكأنه شركة عائلية بفرعين. هذا التمركز لم يكن كفاءة بقدر ما كان شبكة ثقة مغلقة، أقصت بقية المحافظات من صنع القرار، ورسّخت شعورًا عامًا بأن الدولة لا ترى إلا جغرافيتين.
الأكثر سخرية أن كثيرًا من هذه النخب ما زالوا حتى اليوم يتصدرون وزارة الخارجية والشرعية غير الدستورية، يتحدثون باسم وطن لا يُدار، ويمثلون دولة لا يملك شعبها حق مساءلتهم. هكذا تحولت الشرعية من مفهوم دستوري إلى إقامة سياسية طويلة الأمد، ومن مشروع إنقاذ إلى وظيفة دائمة.
السياسة التي تُختزل في محافظتين، لا يمكن إلا أن تنتهي بوطن مُجزأ.
عند أول زلزال، انكشفت الحقيقة: قيادات المؤتمر لم تكن دولة عميقة، بل شبكة مصالح. بعضهم ذهب مع الحوثي، بعضهم هرب مع الشرعية الهاربة، والكل ترك الشارع بلا مظلة. صالح بقي وحده ليحصد ما زرع: دولة مفككة، توازنات مختلة، وولاءات مؤجرة.
السياسة التي لا تُبنى على توازن اجتماعي، تتحول إلى مقامرة خاسرة.
خامسًا: التحليل الاقتصادي – الوظيفة كغنيمة
الوظيفة العامة تحولت من خدمة إلى غنيمة، ومن استحقاق إلى وساطة. الاقتصاد الريعي غذّى هذا الخلل: من يقترب من السلطة يأكل، ومن يبتعد يجوع. ومع الحوثي، لم يتحسن الوضع، بل صار الجوع مؤدلجًا، والفقر مبررًا إلهيًا للصبر والطاعة.
اقتصاد بلا عدالة = مجتمع بلا ولاء.
سادسًا: التحليل العسكري – جيش بلا مجتمع
الجيش الذي لا يمثل المجتمع، ينهار عند أول اختبار. تم تهميش مناطق كاملة من التمثيل الحقيقي في المؤسسة العسكرية، فصار الجيش جسدًا بلا أطراف، ورتبًا بلا عقيدة وطنية. عندما تقدم الحوثي، لم يجد جيشًا يقاتل عنه، بل وحدات تفاوض عن نفسها.
سابعًا: التحليل الدبلوماسي – دولة بلا صوت
كيف تدافع دبلوماسيًا عن دولة لا يعرف شعبها لماذا وُجدت؟ الخطاب الخارجي كان متناقضًا: دولة مدنية في الخارج، وشبكة مصالح في الداخل. وعندما سقط الداخل، لم يجد الخارج ما يدافع عنه.
ثامنًا: التحليل الإعلامي – إعلام التجميل لا الإعلام التنويري
الإعلام الرسمي كان مرآة مكسورة: يُلمع الفشل، ويُخفي التصدعات، ويبيع الوهم. وعندما جاء إعلام الحوثي، كان أكثر فجاجة، لكنه أوضح: تعبئة بدل توعية، تحشيد بدل نقاش.
تاسعًا: التحليل اللوجستي – دولة بلا عصب
الدولة ليست خطابات، بل طرق، وإمدادات، وإدارة. حين تدار المحافظات كملحقات هامشية، تسقط اللوجستيات أولًا، ثم يسقط كل شيء بعدها بهدوء مخيف.
الخلاصة: الخراب ليس في الحوثي وحده
الخراب بدأ يوم تم كسر الميزان، لا يوم دخل الحوثي صنعاء. بدأ حين لم يعد اليمني يرى نفسه في الدولة، ولا الدولة ترى كل اليمنيين.
الرؤية: كيف نمنع تكرار السقوط؟
1. إعادة بناء التوازن الاجتماعي: تمثيل حقيقي لكل المحافظات والقبائل والفئات في القرار.
2. فصل الوظيفة عن الولاء: الوظيفة حق إداري لا مكافأة سياسية.
3. بناء دولة مؤسسات لا أشخاص: لا صالح جديد، ولا سيد جديد.
4. جيش وطني شامل: يمثل المجتمع لا العائلة ولا السلالة.
5. إعلام تنويري: يفضح الخلل قبل أن يتحول إلى حرب.
6. ثقافة وطنية جامعة: لا ناطق باسم الله، ولا محتكر للوطن.
خاتمة: الدرس القاسي
اليمن لم يسقط لأنه فقير، بل لأنه غير عادل. لم يُهزم لأنه ضعيف، بل لأنه غير متوازن. وأي مشروع قادم لا يفهم هذه الحقيقة، سيعيد إنتاج الخراب… لكن بلحية أطول، أو ربطة عنق أنظف









