رؤي ومقالات

محمد عبد الباسط عيد يكتب :ألقاب الست

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

لا يمكننا فهم الألقاب التي حظيت بها أم كلثوم بمعزل عن علاقتها الطويلة والممتدة بينها وبين جمهورها، فلم تحظ أم كلثوم بلقب واحد، ولكنها حظيت بأكثر من لقب، ألقاب تتتابع وتترادف لتشكل نسقا بهيا متعاليا.. ألقاب تحاول الإحاطة بالظاهرة من جهة، وتحاول من جهة أخرى استيعاب تقدير الناس وتفاعلهم مع مطربتهم… فألقاب أم كلثوم ذات صبغة تفاعلية، فيها استعارات الجمهور ومبالغاته الحسنة، فهي: «كوكب الشرق»، و«الست»، و«ثومة» و«قيثارة السماء»، و«معجزة الغناء العربي» و«الأسطورة»… إلخ.
وهذا التنوع في الألقاب فيه قدر كبير من التقدير، وفيه أيضًا انصهار أفق المستمع بأفق المطرب… وهكذا هي الألقاب ذات الطابع الجماهيري، تتحصن بالعاطفة والمجاز والتواصل الفياض: من الجمهور إلى الفنان، ومن الفنان إلى جمهوره، ومن الجمهور إلى غيره من المستمعين الذين لم يستمعوا إلى مطربهم بعد…
والألقاب ــ كما هو معلوم ــ لا تشير إلى مدلولها فحسب، ولكنها تقوم بوظيفة إشهارية واضحة لما يمثله صاحب اللقب من حضور اجتماعي، وحين تتخذ هذه الدلالة الإطلاقية فهذا يعني أنها تنطوي على دلالة تنافسية ما؛ فقد عرف الغناء كثيرًا من المطربات قبل أم كلثوم وبعدها، ولكنها – وحدها – ظلت «كوكب الشرق» منذ أن قرر جمهورها من المحيط إلى الخليج أن يمنحها هذا اللقب وتلك المكانة التي لم يزعمها أحد من قبل، ولم ينازعها فيها أحد من بعد.
ومن زاوية أخرى، فإن كل لقب يفتح أفقًا جديدًا للملقب به، اللقب ليس مجرد عملية تمييز عادية، أو مجرد تعريف بالهوية الشخصية على نحو ما يجري به التداول. اللقب صعود بالهوية الفردية إلى أفق ثقافي رحب، أفق جماعي، ينتقل بصاحبه من مدارات الفرد وانشغالاته اليومية العابرة إلى أنساق الثقافة، وطبقاتها البعيدة، بل يصعد به إلى خيال الجمهور وأفق انتظاره الرحيب.
يقوم اللقب بوظيفة دقيقة – خاصة حين يُشحن بدلالات المجاز- تتمثل في رعاية الموهبة، وإفساح الطريق أمامها لتتقدم وتزدهر… اللقب هنا فيه قدر كبير من معنى التكليف ودقة المتابعة، فكل خطوة يخطوها حامل اللقب مقدرة اجتماعيًا، وكل خطوة يجب أن يتبعها ما هو أهم منها، لتشرق الموهبة على كل النفوس وعلى كل الأماكن.
بعبارة أخرى، الألقاب في هذا السياق، جزء من رعاية المجتمع وتقدير الجمهور لمواهب أفراده، وعلى أم كلثوم إذن أن تكون جديرة بكل ما يخلعه عليها جمهورها من ألقاب، وما أثمن خُلَع الجمهور حين يكون المقام مقام علاقة حرة بين منتج الفن ومتلقيه، علاقة تقوم على الثقة والإيمان بقوة الموهبة وقدرتها على الانتقال من فضاء إبداعي إلى فضاء أوسع وأرحب… فالجمهور يلاحق أم كلثوم بالألقاب وأم كلثوم بدورها تتحرر من هويتها الشخصية الضيقة التي تدل عليها بطاقة هويتها التي تشير إلى اسم محدد: «أم كلثوم إبراهيم البلتاجي»، وزمن محدد (1875م – 1898م) ومكان محدد: «طماي الزهايرة».
لقد تجاوزت أم كلثوم الانتساب إلى الأماكن والأزمان والهوية المحدودة، وباتت بإطلاق – يثير التأمل – «كوكب الشرق» كل الشرق، بما ينطوي عليه من دلالات البداية والميلاد والوضوح… واستدعت المخزون الشعبي القديم الذي يرتقي بالمرأة إلى مقام الأسطوري والمقدس، فهي: «الست» بكل ما في هذا اللقب من حمولة نورانية تتوالى طبقاتها في الوعي المصري القديم من إيزيس إلى دوائر الإيمان المسيحي والإسلامي، لتغدو في اللقب الأخير «قيثارة السماء» أو المنحة الإلهية التي فاءت بها السماء على الناطقين باللغة العربية من المحيط إلى الخليج، وعلى القادرين على تذوق الموسيقا العربية في أي مكان في العالم.
لا يمكننا فهم هذا الفيض من الألقاب بمعزل عن الروح الرومانسية التي هيمنت على السياقين الثقافي والاجتماعي مطالع القرن الماضي، تلك الروح التي تنطوي على تقدير كبير لمكانة الفرد وعبقريته التي بمقدروها – وفق هذا النظر- إنجاز الكثير، ومن هنا نفهم كثرة الألقاب في تلك الحقبة، فأحمد شوقي هو أمير الشعراء، وطه حسين هو عميد الأدب العربي، وحافظ إبراهيم هو شاعر النيل، وخليل مطران شاعر القطرين، وسعد زغلول زعيم الأمة… إلخ.
وبجوار هذا العالم من الألقاب التي تؤكد التفرد والهيمنة على حقل أو مجال بعينه، سنجد حضورًا ملحوظًا للعلامات غير اللغوية الذاتية التي تتبدى في قطع الملابس التي يحرص نجوم هذه الفترة على الظهور بها وتمييز أنفسهم عن نظرائهم، على نحو ما نجد مثلا في كوفية العقاد، وعصا الحكيم، ونظارة طه حسين السوداء… إلخ.
اتخذت أم كلثوم- شأنها شأن نجوم هذا الزمان- لنفسها أكثر من علامة ذاتية، فلم تكتف بما منحه لها الجمهور وكبار المستمعين من الطبقة المثقفة من ألقاب، ولكنها – بالإضافة إلى ذلك – خلقت أكثر من علامة ذاتية حرصت على إبرازها في اللحظة الفريدة التي يتسلط عليها الضوء، لحظة وقوفها على المسرح: كتسريحة شعرها الثابتة، والمنديل الحريري الذي اكتسب صيتًا واسعًا، والنظارة السوداء التي تغطي عينيها، وبصرف النظر عن اضطرارها إلى علامتي المنديل والنظارة لأسباب صحية فيما يرى البعض، إلا أنهما مع الوقت أصبحتا جزءًا من صورتها التي تؤكد تفردها وامتيازها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock