ثلاثية هندسة الغياب… بقلم هدي حجاجي

1 — ارتباك البداية
أستيقظ وفي رأسي ضجيج بلا صوت، فكرة تتكور مثل حجرٍ بارد، تدحرجها الأشباح بين الوعي والهاوية، لا تطلب اسماً ولا تعترف بحدود. تتجوّل في رأسي منذ الصباح، أحاول أن أمسك بك، أن أكتبك، أن أزّجك في كتاب، أن أحاصرك في الورق، أن أجعل اللغة تُغطيك، تُدبّجك، أو ربما تجعلك مبتذلاً. كل كلمة أحاول تشكيلها تهرب مني، كل معنى أحاول احتجازه يتلاشى في الفراغ، وكل محاولة لاحتوائك تنكسر تحت وطأة الغياب. ولكنك، كلما اقتربت، انسحبت خطوة إلى الظل، وتركت لي ظلًّا يطاردني، يلمس وجهي بلا رحمة، ويختبئ قبل أن أستطيع الإمساك به.
2 — عناد الفكرة
أنا لا أخافك، لكنّي أخاف ما تصنعه بي. أخاف أن تُعيد ترتيب قلبي بغير إذن، أن تُبدّل مواقع الألم كأنّه أثاث محطم في غرفة مهجورة. لكنّي لا أستطيع، إنك تحلّق، تطفو، تضرب سقف رأسي، تنزل، تتدلّى، تخبط أبواب قلبي، وكأنك تختبر صمتي وقدرتي على الاحتمال. أحاول أن أضعك في جملة، فتهرب إلى ما بعدها، أحبسك في معنى، فتنكسر اللغة وتتسرب الظلال، وكأن الكلمات أصبحت ثغرات لا تحتمل سكب شعورك. الجهات تقتلني، لأنك بلا جهة، وأنا بلا مأوى، أتوه في ركن مظلم لا يرحم، وحين أغمض عيني، أراك تتجول في غرفتي بلا إذن، تصنع صمتًا أقسى من أي صراخ.
3 — رغبة النسيان
أنا التي تريد أن تنسى، لا لأن الذاكرة قاسية، بل لأن الحضور أثقل من طاقة الاحتمال. أريد نسيانك كمن يطفئ مصباحاً ليغرق في الظلام، ليستريح من الرؤية، من صرخات الصمت، ومن خيالاتك التي تتلوّن بالأسى، ومن صدى خطواتك التي تتكرر في رأسي بلا نهاية. غير أنّك، كلما قلت: انتهى، بدأت من جديد في مكان آخر مني، كظل يتسلل ويخنق الحياة بهدوء، كنسيم لا يُسمع إلا في عتمة القلب. هكذا أفهم الآن: بعض الأفكار لا تُكتب، لا تُنسى، بل تُعاش كجرحٍ يتقن التخفّي، ويصرّ على البقاء، ويعلّمنا كيف يكون الغياب حضورًا أكثر من أي لقاء








