حمزه الحسن يكتب :عيادة الأمراض الشعرية

واحدة من الغرائب ان العربي ما أن تحل به مصيبة، أو في سفر، أو أن يقع في حفرة مجاري حب فاشل أو مصيدة منجورة بدقة وهندسة،
حتى يتحول الى شاعر ولو كان زاهداً وصوفياً أو صاحب عربة جوال أو ميكانيكي أو صراف عملة نصاب في المطار أو نشال عكس الأوروبي الذي يحاول التعويض عن الفشل أما بفتح مشروع أو دراسة أو إبتكار جهاز لكي يثبت مكانته بــــ” الأفعال” لا ” بالأقوال” كما العربي لأن العقل العربي شعري حتى في التحليل السياسي وفي الحديث عن تركيب الاسمنت والخس.
عدد الشعراء في العراق اكبر من عدد الاطباء والعلماء ومن عمال الاغاثة والحرائق واكثر من عدد السحرة والمنجمين وهم طبقة فراغية غير منتجة غير الضجيج والعطب مع الاحترام لقلة تضيع في الصخب والضجيج وتحترم نفسها وتحترم الشعر يوم كان جمالاً وصدقاً مع الذات والآخر وليس وسيلة نصب واحتيال وبناء مكانة مزيفة.
ولأن هذه الظاهرة استفحلت وأغلقت الأبواب في عبور الأزمات غير البوابة الشعرية ، فمن الضروري فتح مستشفى للأمراض الشعرية تتضمن كما في المستشفيات العادية قسم الحالات المستعجلة لكل ” مضروب بوري” في العامية مخدوع أو ذهب الى موعد غرامي ووجد قبله ثلاثة زبائن أو أكثر أو عاد من موعد غرامي فاشل وسقط في حفرة مجاري.
هؤلاء يمكن علاجهم لكن بعض الحالات المستعصية تحتاج الى وحدة” عناية شعرية مركزة” للحالات الميؤوس منها ومثلاً واحد تعلم القراءة والكتابة في حملة محو الأمية ولا يفرق بين حرف الالف ورقبة البعير ويدعي انه فائز بجائزة عالمية للشعر لا تعرف مصدرها ولا مكانها أو انه عضو في 3 اتحادات أدبية دولية مع ان هذا انتحال وتزوير وخداع لقارئ يعاقب عليه القانون والعرف والاخلاق لانه استغفال لعقول الناس .
هذه الشعبة تحتاج الى أطباء كبار في علاج” الانتفاخ المرضي” الذي يجعل الفأر يرى نفسه في المرآة أسداً والخنفساء فراشة وخريج سجون الى خريج جامعة ـــــــــــ من يدقق في هذه الدوامة ؟ ــــــ ومن صياد عصافير الى صياد قصائد.
الى جانب هذه الشعبة ، يجب فتح ” ردهة الغيبوبة الحضارية” الذي يحدثك عن الليل والخيل والقرطاس والقلم في زمن السفر الى الكواكب واكتشاف مليارات السنوات الضوئية في حين هذا الصنف لا يستطيع عبور بركة ماء في الشارع او الخروج للشارع اذا كان الضوء مطفئاً.
ومن التمادح المتبادل يشعر بعض هؤلاء انه ولد في الزمن الخطأ والمكان الخطأ ويحتاج الى أجيال لكي تفهم ما يقول مع انه لا يفهم هل يقول أم يبول.
تقترح صديقة حين كنا نتحدث عن مستشفى الامراض الشعرية فتح صالة للجراحة لأستئصال الحقد والكراهية والغيرة من أعماق هؤلاء الذين حولهم جنون الفشل الى “هاربين” الى اللغة بدل مواجهة حقيقتهم البائسة أو ما تبقى منها لأن من قطع طريقا طويلا في النصب والاحتيال من الصعب جدا عليه قطع طريق العودة أو التفريق بين الأصالة والكذب لأن الذات الأصلية تشوهت تماما، وبدل مراثي الألم البحث عن حلول واقعية وشجاعة، وبدل خداع الذات والآخرين، مواجهة الذات والآخرين بصدق ووضوح لأنه يوفر عوائد أفضل للذات ويكسب احترام الآخرين لكن العائق الاكبر هو الكذب القهري التسلطي المرضي Pathological Lying الذي يعد مرضاً عضوياً لأنه خارج السيطرة ويختلف كثيراً عن الكذب العادي وهو على مستوى الشعور يعرف انه يكذب وكل كذبة تفرخ العشرات او ما يُسمى الميثومانيا Methomnia وهو هوس غير مسيطر عليه ويحافظ هذا الصنف على المظاهر الخارجية سليمة من خلال الاقنعة والتمثيل. حسب نيتشه:” ما من أحد يرتكب الكذب، إلاّ إذا تكلم ضد ضميره” وتعرفت على هذا المصطلح اول مرة في رواية هاروكي موراكامي” الغابة النرويجية”.
كما من الضروري ان يضم المستشفى ردهة او صالة أو شعبة للجلد والتعذيب الجسدي لبعض هذه الأصناف الذين يعتقدون ان الكلمات ستمسك السبع من ذيله وانها الواقع نفسه كما يفعل الساحر والمشعوذ في صناعة الرقية أو التعويذة مع ان الكلمات محاولة واقتراب من الواقع وان الخطأ الفادح الذي وقعت فيه البشرية هو الايمان باللغة بتعبير نيتشه وان النحو اللغوي هو الذي يحدد الصفات والبشر والعلاقات والعقل والتخيل.
لكن المشكلة في تورم” الغدة الشعرية” عندما يعتقد صرصار شعري خرج من علبة النفتالين ان الكلمات قادرة على ترميم الجروح، تماما كما كان يفعل الانسان الأول، وان القافية ستوقف جيوش العدو، وان الوزن الشعري سيكون بديلاً عن العلم والمعرفة.
الذات المزيفة في الوطن ستخرج في المنفى الى العلن وسط محيط لا يعرف خلفيتها وتمثل أدواراً واللهجة الحماسية العالية في القصيدة يخلق تناقضا كوميديا بين جمال واقع مسالم وصخب القصيدة الممسرح للفت الانتباه وامام جمهور اجنبي مثلا يلوح كمهرج لكن امام ابناء جلدته يتقاسم معه الادوار ويتحول النادي الثقافي من مركز للتعبير عن الذات والتعافي من الماضي الى مركز استعراض الذات المزيفة ولعب دور الضحية، أي اشراك الجمهور في لعبة مزيفة لأنه كائن مدمن على ذلك كعقرب يكون السم جزءا من تصميمها ولم تتعلمه في مختبر أو دراسة الكيمياء.
تسليع الألم أو المتاجرة بمعاناة الناس هي المرحلة الأخيرة من الذات المزيفة عندما تدخل في مرحلة التوحش ويشبه المتاجرة بالاعضاء الجسدية وتحويل أنين الضحايا الى عملة وفرصة تكسب ويتعامل داخليا وسرا مع الكوارث كجلسات تمثيل . الضحية تتمزق وهو يسرق حقوق الألم. هو بشكل آخر الوجه الأكثر بشاعة للقاتل الحقيقي لأن الاول يسرق حياتها والثاني يسرق قضيتها ودمعها وليس الهدف التضامن لأنه بلا ضمير بل البقاء في دائرة الضوء. تاريخه السري يفضحه لذلك يتستر عليه بمشقة من خلال استعارة آلام الناس لكنه عاجز بشكل مطلق عن يستعير أوجاع القلب. هناك فارق بين التعاطف الوجداني الصادق وبين التعاطق العقلاني المسرحي البارد.
وهناك صنف من الذين قضوا حياتهم” الشعرية” وقد تمزقت سراويلهم من مسامير القنفات، الأرائك، وهم يحللون المعارك الحربية التي لم تعد بالاسلحة التقليدية بل الليزر والهاتف والاقمار الصناعية والتجسس من خلال الهواتف والتلفاز وحتى من حبوب الفيتامينات التي تتحول اجهزة تعقب، وهذا الصنف الاستراتيجي في التحليل يصاب بالاغماء من انفجار بالون اطفال أو اطار سيارة.
لا يمكن للمستشفى الشعري أن يكتمل بلا قسم ” لشعراء الانتحال” وهؤلاء خبراء في خداع حتى كبار علماء النفس ولا علاج لهم بالمطلق غير الصدمات الكهربائية التي اختفت من الطب لقسوتها واذا فشلت الصدمات فلا حل غير استعمال الضرب بشحاطات حمام ـــــــــــــــــ يفضل قباقيب خشبية صلبة لاعادة الوعي ـــــــــــــ لكي يواجه هؤلاء ولو بعد فوات الاوان الحقيقة العارية في أنه من الممكن سرقة أموال الناس، وممكن سرقة ثقتهم، وممكن سرقة سياراتهم ، لكن من المستحيل سرقة ضمائرهم الى زمن طويل خاصة اذا كان في المستشفى قسم كشف الاقنعة ووضع هؤلاء أمام مرايا كاشفة وجهاز تصفية الحقيقة من الزيف.
هؤلاء وظيفتهم مطاردة كل مثقف او كاتب او فنان ناجح خارج السرب لكي تصبح البشاعة عامة وتعميم القبح وينسون في الغضب لغة الادب لانها لغة لطش ولم تتجذر في الوجدان ويعودون الى لغة الشوارع الخلفية لانها عميقة وراسخة.
اذا لم تنفع كل هذه العلاجات، فيبقى العلاج الأخير وهو كي المؤخرة بقرص ناري حتى يتذكر المنتحل دائماً أن الشعر فن الينابيع الصافية ويتناقض مع الكذب بتعبير الشاعر رسول حمزاتوف ولا يخرج الشعر من هذه الأمكنة العفنة، والكي شعار العرب القدماء” آخر الدواء الكي” لتحطيم الهيبة الزائفة أمام الذات في الأقل والعثور على الصورة الحقيقية التي أضاعها هؤلاء في منعطف ما وصاروا يحملون كل الاسماء وكل القضايا وكل الوجوه بإستثناء أنهم لا يحملون ذاتاً حقيقية أو وجهاً حقيقياً.
ــــــــــــــ للروائي واسيني الأعرج مقال” مستشفى الأمراض الأدبية” لعلاج الغيرة والحسد والتهميش وعمل كل ما يمكن لجعل الآخر يفشل ويجزم واسيني ان هؤلاء ميؤوس منهم وفعلا لان الذات المزيفة لا علاج لها ابداً لأنها تشوه كلي في الشخصية وليست مرضا واحدا يعالج لان مشكلة هؤلاء المرضى ليس ما يكتبونه او يقولونه بل ما يظنونه عن انفسهم ولا يظهر للعيان كجرح سري لا يجب ان يكتشف وهناك علاج قانوني لهؤلاء يسمى” علاج المرايا المحطمة والمزيفة” لمواجهة ضحاياهم الذين خدعوهم ويقطع عنهم سماع الاطراء والمديح الذي يغذي عقدتهم أمام صمت مطلق في مواجهة ذات خاوية بلا استعراض ولا اقنعة ولا تمثيل شخصيات ولغات حسب الاشخاص والمواقف.
العلاقة وثيقة بين الوطن والمنفى وما لا يظهر في الوطن يظهر في المنفى ومن خلال دراسة هؤلاء عن قرب يمكن توقع المستقبل لأنه كيف نفكر، الآن.









