م. معاوية ماجد يكتب: امرأة من حبر ونور: سرد جماليات منال رضوان ودهشة الكتابة

يبدو التاريخ الأدبي المصري كحديقة تتجدد في كل عصر، تتفتح فيها وردة جديدة تحمل رائحة زمن سابق، ولون زمن قادم. وفي ذاكرة هذا التاريخ، كانت المرأة المصرية دائمًا حضورًا مُشرقًا، لا باعتبارها ظلًا يتبع رجلاً، وإنما باعتبارها كائنًا يكتب العالم ويعيد تركيبه عبر حساسية خاصة ورؤية تشبه خريطة نجوم فوق سماء القاهرة. ومن بين هذا الامتداد النسوي الرفيع تظهر منال رضوان بصفتها تجربة أدبية استثنائية تتكئ على إرث ثقافي عميق، وتكشف عن صوت يمتلك قدرة على نسج الجمال بين دفتي المعرفة والشعر، النقد والحياة، حتى تبدو كتابتها كجسد من ضوء وحبر يلمع كلما اقتربت منه القراءة.
تكتب منال رضوان الأدب بوصفه إرادة وجود وليست مجرد ممارسة لغوية. تتجاوز حدود التصنيف بين قصة ورواية وشعر ونقد، وتتحرك في مساحة صافية من الحرية الإبداعية التي تمنح النص واجهته الخاصة وصوته الفريد. ليس غريبًا أن تتعدد أعمالها بين “بلكونة نحاس” بطبعتيها، ومجموعاتها القصصية “طقس اللذة” و“سنوات الجراد”، ونصوصها السيرية “أضغاث صحوتي”، ودواوينها الشعرية “أنا عشتار” و“قربان لا تأكله النار” و“رباعيات حب وبعاد”. فكل هذه النصوص تشبه جسورًا مختلفة فوق نهر واحد: نهر التجربة الإنسانية في أكثر مستوياتها توترًا وامتلاءً.
في سردها القصصي، تكتب رضوان الإنسان تحت ضوء التجربة: بشرًا يمشون في أزقة المدن حاملين مخاوفهم ورغباتهم وأحلامهم وندوبهم الداخلية. في “طقس اللذة” مثلًا، تتحول اللحظة الإنسانية إلى مساحة لإعادة تعريف الجسد والروح معًا، وفي “سنوات الجراد” يتجلى التاريخ بوصفه فمًا مفتوحًا يلتهم الذاكرة، بينما تنبعث في “أضغاث صحوتي” ملامح الذات ككائن يعيد كتابة نفسه خارج حدود الكتمان.
أما في الشعر، فتكتب منال رضوان قصيدتها كما لو كانت تصنع موسيقى للغيم. حين تقول “أنا عشتار” فهي لا تستحضر الأسطورة من متحف الذاكرة؛ بل من جسد النساء اليوم، من أصواتهن، من هشاشتهن وقوتهن، ومن تلك الأسئلة التي لا تنام. وفي ديوان “قربان لا تأكله النار”، تظهر القصيدة كساحة وجودية يرتجف فيها الضوء والظلال، ويتحوّل الحبر إلى دم يكتب عن الحب والموت والبعيد الذي يسكن القريب. وفي العامية المصرية، نجد روح القاهرة تنبض في لغتها الشعبية، ممزوجة بإيقاع التفاصيل اليومية ووهج الحكاية المصرية المتوارثة.
ويتسع حضورها النقدي ليشمل رؤية منهجية لكتابة الرواية العربية الحديثة؛ إذ تقرأ النصوص داخل سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، وتلاحق فكرة النوع الأدبي في رحلتها المتغيرة، كما في كتابها “بين المصطلح والمفهوم: قراءات في الرواية العربية الحديثة”. لم يكن النقد عندها مجرد مسعى تحليلي منفصل عن الجمال، بل هو قراءة من الداخل، إنصات ينطلق من نبض النص لا من خارجه. لهذا قاربت أعمالًا وصلت قوائم الجوائز الكبرى: بوكر العربية، زايد، كتارا، ونصوصًا أخرى ملأت الفضاء الثقافي العربي حضورًا وتأثيرًا.
أما حضورها الصحفي والإعلامي، فيكشف عن صوت يمتد خارج الورق إلى الجمهور مباشرة. تُنشر أعمالها في المصري اليوم، الأهرام، القدس العربي، الرأي الأردنية، مجلة الكلمة، الدوريات البحرينية والمغربية، وغيرها من منابر الوعي العربي. وتظهر في البرامج التلفزيونية والإذاعية المتخصصة لتناقش النصوص والفن والفكر والسيرة والتراث. هذا الامتداد ليس استهلاكًا للضوء الإعلامي، بل امتداد طبيعي لكاتبة تمتلك ما تقوله، وتثق أن الكلمة تكتسب وزنها الحقيقي حين تخرج من عتمة العزلة إلى ساحة النقاش العام.
ويكمل هذه الصورة حضورها المؤسساتي بوصفها عضوًا باتحاد كتاب مصر، وفاعلة في لجانها الإعلامية، ومحكّمة في مسابقات القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، وفاعلة في ملفات نقدية حول روائيين كبار وأسماء عربية مرجعية. هذا الدور يكشف عن تقدير واضح لتجربتها داخل البنية المؤسساتية المصرية والعربية، ويضعها ضمن الأصوات التي تصنع أثرًا حقيقيًا لا في النص فقط، بل في حركة الأدب نفسها.
إن منال رضوان تكتب الأدب كمن يضيء غرفة واسعة بفتيل صغير؛ تتسع الإضاءة شيئًا فشيئًا حتى تظهر تفاصيل الجدار والظل والذاكرة. وفي كل عمل جديد، تتكشف احتمالات جديدة لما يمكن أن تكون عليه الكتابة العربية حين تصدر عن امرأة تقود اللغة إلى منطقة أكثر شفافية وعمقًا. فهي لا تُعيد إنتاج شكل أنثوي سابق، بل تكتب صوتًا لا يشبه إلا نفسه، صوتًا ينحت وجوده من اللغة، ومن التجربة، ومن شغف لا ينطفئ.
في جوهر هذه التجربة، تبدو منال رضوان امرأة من حبر ونور بالفعل: حبر يثبّت أثر الذاكرة في النص، ونور يفتح أبواب القراءة على دهشة لا تهدأ. وبهذا، يتحول الحديث عنها إلى حديث عن المرأة المصرية حين تتجدد في الحاضر؛ امرأة تصنع من ذاتها نصًا مفتوحًا على المستقبل، لا قيد له سوى ما تكتبه الروح وما تبوح به الحياة. إن منال رضوان لا تضيف سطرًا جديدًا في تاريخ الأدب المصري فقط، بل تضيف فصلًا يلمع بلغة لا تشبه إلا بصمت القناديل فوق ليل النيل: قليل الكلمات، عميق الأثر، ممتد في الزمن.









