رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :تنظيف غرفة مغلقة”

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في زمن انطونيو غرامشي (1891-1937) المفكر الايطالي لم تكن هناك وسائل تواصل لكن غرامشي صاغ نظرية العمل ونشر الوعي من خلال المؤسسات كالمدارس والصحف والكنائس ومؤسسات الجيش والشرطة وكان يؤمن ان الهيمنة Hegemony لا تتحقق بالقوة العسكرية بل باقناع الناس بقيم مغايرة لذلك كان يوصي بالعمل في البنى الصغيرة كالاسرة والنادي والاصدقاء والمدرسة والخ لانها الاساس الذي يقف فوقه النظام السياسي واذا تم هدم الاسس ينهار.
كان مصيره السجن ثم الاعدام من جهة كما قام الحزب الشيوعي وهو عضو قيادي فيه باخفاء مخطوطاته التي تركز على دور العامل الثقافي وافرج عنها في التسعينات بعد التحولات العاصفة في اوروبا الشرقية التي عملت الثقافة ومؤسسات المجتمع المدني دورا فيها.
تحدث غرامشي عن المثقف العضوي المعبر عن مصالح الناس لكن التحول اليوم بوسائل التواصل أن تقوم مؤسسات حكومية وأمنية ومخابرات بعناوين مزيفة بتغيير القناعات الشخصية والعامة وخلقت بلبلة بين ما يقوله المثقفون وبين ما تقوله المؤسسات السرية التي تعد بالالاف حسب مؤسسات رصد الصفحات وفي فكرة واحدة واتجاه واحد وفي وقت واحد ثم تصمت في وقت واحد لان المركز واحد.
كان غرامشي ــــــــــــــــ صارت المدرسة الغرامشية ـــــ تفرق بين الصراع المباشر مع السلطة التي لا يمكن الوقوف ضدها بالقوة فلجأ الى مناورة الوعي: النضال الطويل داخل البنى الصغيرة الاجتماعية التي تصب روافدها في السلطة السياسية كمنتوج اجتماعي عكس تصورنا السطحي المزمن في ان السلطة هي جيش وشرطة وحكومة.
باكتشاف البنى المجهرية للسلطة والعمل من داخل الحلقات الضيقة للتخلص من قمع السلطة وصحفها واعلامها ومن تفاهة الممؤسسات الاعلامية الكبيرة ولم يكن تركيزه على تغيير السلطة السياسية بل تغيير البنى الاجتماعية الصغيرة المنتج لها وقاعدة النظام.
في وسائل التواصل ليس الانسان اكثر من رقم وبتعبير الفيلسوف والروائي امبرتو ايكو ان صفحات التواصل تعطي حق الكلام للبلهاء كأنهم عباقرة، لكن في البنى الاجتماعية الصغيرة يستعيد وعيه وكرامته وينتقل الحوار من تسجيل ارقام الى تواصل انساني عميق وبهذه الطرق تبنى الخلايا الصلبة الفكرية في العمق الذي لا يستطيع الوصول اليه” الحمقى والأغبياء” ويمكن للمثقف العمل على تطوير افكاره بين الناس على مدى شهور لكن في وسائل التواصل ” تُقتل” أنبل الأفكار في لحظات لأنها بلا حصانة كما انها” لا تتطابق مع المعايير المطلوبة” وحشد من هجوم من التافهين مبرمج على انه عفوي للاخراس ودفع المثقف للانسحاب والاستنكاف وهكذا تحقق الهدف.
الفارق بين معركة غرامشي ان الصراع هنا رقمي افتراضي لكنه في نظرية غرامشي يتحول الى” ممارسة” . من التذمر من سوء الخدمات الى المبادرة بخدمات شعبية ومن الشكوى من سوء وتخلف التعليم القيام بمبادرة على تعليم صحيح ليخلق هوية هيمنة مضادة.
تشجع المنصات حوار الاستعراض لكن حوار البنى الصغيرة يبني الثقة والمعرفة وتراكم العلاقات السوية وبناء هياكل جديدة بعيدة عن السلطة : تعمل المنصات على التشتت وخلق الحشود المتناقضة في حين تعمل البنى الصغيرة على خلق الثقة والوحدة والانتماء للقضايا الكبرى بدل الفرعية.
في صفحات التواصل القارئ متملق احيانا يسعى للاطراء لا للفهم ويبحث عن الاعجاب لا عن الحقيقة عكس حضوره في البنى الاجتماعية حيث هو شريك في قضية وعضو فاعل في جماعة جدية وعميقة.
ليس الحديث هنا اليوم ومن قبل عن وقف العمل مع وسائل التواصل بل الهدف توسيع دائرة العمل في حقل الوعي ومعركة السلطة والحرية.
اما الذين يعتقدون ان وسائل التواصل هي البديل الوحيد، فهؤلاء يلغون قرونا من العمل الشاق للمثقفين والكتاب والفلاسفة والادباء اولا، وثانياً استسلام للقوة التي تمارس التفاهة وغياب النفس الطويل والاهداف البعيدة وليس الانسحاب وعندها تتحول المشكلة من هدف المنصات في وعي مصمم سلفاً الى مشكلة المستعمل المبرمج في كل شيء على السطحية وتصبح المواجهة بين مثقفين اصلاء جادين وبين حشود من الغوغاء معدلة الوعي للحصول على متعة الدوبامين السريعة وليس الوعي والبحث عن الحقيقة ويصبح استهلاك التفاهة عملاً ارادياً واستبدال الحس السليم بالترند المشترك ويرى في المقال الذي يحتاج الى دقائق رحلة شاقة وانتحاراً وتتحول التفاهة من عادة الى بيئة ويصبح سحب القارئ من منصة التفاهة الى الواقع كسحب تمساح من بحيرة وحل الى حديقة زهور. أنت في النهاية تتعامل مع كائن مدمن ويجد ان الجدية سوداوية والتفاهة متعة وانت كمثقف جاد يرى في مقالك تعكيراً لمزاجه الضحل واهتمامات مهندسة على السطحية.
لا يرى بعض العلماء في النفور من قراءة مقال جاد في دقائق هروبا وكسلا بل تمت عملية اعادة صياغة بيولوجية للدماغ والتلاعب في كيمياء المخ من خلال: مكافأة سريعة، السطحية بحيث يشعر العقل الفارغ بقدرته على استيعاب هذه الاشياء التافهة، تدريبه على ان الجدية نوع من الكآبة بل حتى المرض النفسي، ولكي يتحاشى هؤلاء بيئة مثقفة جادة يلجأون الى تشكيل علاقات من الصنف نفسه وبدل علاقات مبنية على ثوابت وروابط نظيفة عميقة حلت علاقات التواصل وقضاء الوقت ولم تعد العلاقات انتماء لقيم ومبادئ بل علاقات استهلاك، وليس الاخر شريكا في قضية بل شريكاً في عمل لذة أو متعة عابرة، وتصبح متابعة ” الأصدقاء” في الظهور في الصفحة كمتابعة متجر للزبائن وتنتهي العلاقة فوراً ما ان يتوقف الزبون عن زيارة الصفحة ــــ المتجر، لكي تبدأ رحلة جديدة للبحث عن زبائن من المستوى نفسه.
حسب غرامشي:
” العلاقات السطحية هي أحدث صور اللامبالاة؛ فنحن نهتم بكل شيء “افتراضياً” ولا نهتم بأي أحد “فعلياً”.
يقول عالم الاجتماع زيجمونت باومان: “في العالم السائل، التواصل هو مجرد وسيلة لتجنب الصمت، لا لتبادل الأفكار”.
ويقول غرامشي: “يجب أن نثقف أنفسنا لأننا سنحتاج إلى كل ذكائنا” لكن كيف تثقف نفسك وسط كل هذا الضجيج، وقبل غرامشي قال المثل العراقي الحكيم:
” واحد يبخر وعشرة تضرط” والغرفة مغلقة. ماذا يفعل؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock