سلطانة ومدرج الظل… بقلم فاطمة زيان

كانت المدرجات في ذلك الصباح مكتظّة،
أصوات الطلبة تختلط بوقع الخطوات، ودفاتر تُفتح على عجل،
لكن مليكة كانت تشعر بوحدة غريبة،
تجلس بين الناس، ولا يجالسها أحد حقًا.
جلست فتاة إلى جانبها دون مقدمات.
رفعت رأسها، التقت عيناها بعينين حادتين، متعبتين،
لكن فيهما شيء من التحدي.
قالت الفتاة وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:
«أنا سلطانة.»
كان الاسم يليق بها.
ليس لأن حياتها كانت ملوكية،
بل لأن في نبرتها بقايا سيادة على الألم.
بدأت الصداقة كما تبدأ الأشياء الحقيقية:
بسؤال بسيط عن المحاضرة،
ثم تعليق عابر عن صعوبة الطريق،
ثم صمت طويل لم يكن محرجًا.
بعد أيام، صارتا تجلسان معًا دائمًا.
تتقاسمان الملاحظات،
وتتقاسمان أيضًا التعب الذي لا يُكتب في الدفاتر.
في إحدى الزوايا البعيدة من المدرج،
قالت سلطانة فجأة، وكأنها تقطع حبلًا داخليًا:
«أبي لا يكلّمني منذ أشهر…
أنا أدفع ثمن هروب أختي.»
لم تسأل مليكة كثيرًا.
تعلمت من الطريق أن بعض الحكايات لا تحتاج استجوابًا،
بل حضورًا.
حكت سلطانة عن أختها التي أحبت،
وهربت،
وتزوجت دون إذن العائلة.
عن الأب الذي حوّل غضبه إلى عقاب جماعي،
وعنها هي…
التي بقيت،
فحملت الذنب وحدها.
قالت بصوت منخفض:
«كأنني أنا من ارتكبت الخطيئة…
كأن وجودي نفسه صار اعتذارًا غير كافٍ.»
شعرت مليكة بوخز في صدرها،
ليس ألم المرض هذه المرة،
بل ألم الفهم.
قالت بهدوء:
«الآباء حين يعجزون عن السيطرة على الغائب،
يقسون على الحاضر.»
نظرت سلطانة إليها بدهشة،
ثم ابتسمت ابتسامة حقيقية لأول مرة.
«تشبهينني… أو ربما تشبهين ما أود أن أكونه.»
منذ ذلك اليوم،
صارتا تتقاسمان أكثر من مقعد في المدرج.
تتقاسمان الخوف من البيت،
والحلم بالخلاص،
والإصرار على ألا يكون التعليم مجرد شهادة،
بل نافذة نجاة.
كانت سلطانة أكثر جرأة،
تضحك بصوت عالٍ أحيانًا،وتتحدث عن مستقبلها كما لو كان حقًا غير قابل للنقاش.
أما مليكة،فكانت أكثر هدوءًا،
لكنها حين تتكلم،تفعل ذلك من مكان عميق، مُجرَّب.
قالت مليكة ذات مرة:
«أنا لا أريد أن أعيش لأُرضي أحدًا…
أريد فقط ألا أُخون حقيقتي.»
أجابت سلطانة:
«وأنا لا أريد أن أُعاقَب على ذنب لم أرتكبه.»
ضحكتاضحكة قصيرة،لكنها كانت كافية لتخفيف ثقل السنوات.
في المدرج، بين محاضرة وأخرى،
وُلدت صداقة لا تقوم على التشابه فقط،
بل على الاعتراف المتبادل بالألم،وعلى وعد غير منطوق..









