كتاب وشعراء

أنثى مثل حبة التوت….بقلم سمير لوبه

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

سمير لوبه كاتب مصري من مواليد ١٩٧٠ بالإسكندرية ، مهتم بالأدب السردي الذي يستحضر المكان والذاكرة والهوية، ويجمع بين الحس الموسيقي واللغة الشفيفة. يكتب القصة والرواية بنبرة تتكئ على رهافة التعبير وتفاصيل الحياة اليومية، وخاصة في الإسكندرية التي يعتبرها رفيقة قلمه ومصدر إلهامه.
صدرت له كتابات متنوعة بين القصة القصيرة والرواية والقصائد النثرية والمقالات الأدبية.
و صدرت له مؤخراً مجموعة “أنثى مثل حبة التوت”
تُعد مجموعة “أنثى مثل حبة التوت” تجربة سردية شديدة التميز، تنفتح على عوالم إنسانية عميقة، وتغوص في مناطق الألم والتأمل والحنين.
هي مجموعة قصصية تستدعي من القارئ الإصغاء لا للحكاية فقط، بل للفكرة والمغزى الإنساني
تضم المجموعة اثنتين وثلاثين قصة قصيرة، تتفاوت في الطول لكنها تتكامل في الروح، وتكشف عن قدرة الكاتب على رسم ملامح الإنسان المعاصر في لحظات انكساره ومقاومته، في المدن كما في القرى، في الضجيج كما في العزلة، في النور كما في الظل.
ثيمات المجموعة:
تتناول القصص موضوعات محورية مثل الحنين إلى المدينة الضائعة، الذاكرة الجمعية، العلاقة المعقدة بين الفرد والمكان، المواجهة اليومية مع الفقر، الغربة الداخلية، قسوة الواقع، ومقاومة الانكسار عبر الحلم أو الكتابة أو حتى الصمت.
في قصة “ثم لم يبق أحد في الإسكندرية” يستحضر السارد مدينة الإسكندرية ككائن يحتضر، حيث تختلط الرؤية الحسية للبحر والضباب والخراب العمراني، بلقاءات تخييلية مع شخصيات مثل “كفافيس” و”بيرم التونسي” و”سيد درويش”، لتصبح المدينة مرآة لفقدان المعنى والتحولات الكبرى في الحياة المصرية الحديثة.
أما قصة “الصياد الأخير” فهي مرثية حقيقية للجيل الذي عاش البحر وأحبه ومات فيه. من خلال شخصية الجد الصياد، يرسم الكاتب ملامح التآلف بين الإنسان والطبيعة، ثم يرثي الفقد حين يبتلع البحر هذا الإنسان، في مشهد جنائزي رمزي مؤثر، تتداخل فيه الواقعية بالسحر.
في “الميدالية الذهبية”، تُجسد القصة واحدة من أبرز ملامح المجموعة: البطولة النسوية الصامتة. نعمة، الأم المنكوبة والمقاتلة، تربي طفلتها من ذوي الهمم، وتنتصر رغم الخذلان والهجر والواقع القاسي، لتتحول النهاية إلى مشهد احتفالي عاطفي عظيم تتوج فيه الابنة والأم معًا بميدالية الانتصار الحقيقي.
تقدم قصة “حذاء إنجليزي” نموذجًا آخر للرمزية الذكية، حيث يتحول حلم بسيط كامتلاك حذاء إلى معادل موضوعي ينتهي فيه حلم الإنسان البسيط بالموت واللعنة التي لا تنتهي.
وفي “حذاء أمل ممزق” نرى انعكاسًا لطفولة مسحوقة، تواجه قسوة الفقر برغبة بريئة في الاحتفاظ بما تبقى لها من كرامة عبر حذاء لا يُصلح.
وفي “رحلة لم تنته”، يخوض السارد تجربة وجودية في شوارع القاهرة القديمة بحثًا عن ذاته، فيتحول الطريق إلى جامع السيدة زينب إلى رمز لمسار داخلي يلامس أسئلة الروح والضياع والانتماء. بينما في “على باب الحسين”، تتكرر فكرة الفقد، لكن في سياق شعبي روحي، حيث يصبح باب المسجد نقطة تلاقي بين الغرباء والباحثين عن العزاء.
أما قصة “رجل الظل”، فتأخذ منحى بوليسيًا جاسوسيًا، تدور أحداثها في أجواء الحرب العالمية الثانية، حيث يعمل “محمود” تحت غطاء وظيفي بسيط، فيما هو في الواقع جزء من شبكة تجسس معقدة. تمتزج الإثارة هنا بالتشويق، في حبكة محكمة وشخصيات متعددة، ونهاية مفتوحة تليق بمفهوم “اللعب في الظل”.
وتبرز “غربة المرآة” و**”شراء الحلم”** كقصتين نفسيتين بامتياز، تعالجان بذكاء هموم التغيير ، وتضعان القارئ أمام أسئلة الذات المتحولة، وما إذا كان يمكن للإنسان أن يحقق صورته الداخلية .
ولعل من أكثر القصص خصوصية قصة “الرقم ١٣ أو ٦٧”، والتي تتخذ شكلاً شبه ميتافيزيقي، يلاحق فيها السارد لغزًا عدديًا غامضًا يقوده إلى التساؤل عن القدر والمصير، في فضاء رمزي يشبه الحلم أو الكابوس.
وفي “رسالة إلى الموت”، يختم الكاتب بحوار داخلي عميق بين الذات والموت، يشبه المونولوج المسرحي، وهو إعلان هادئ عن التصالح مع النهاية.
الأسلوب والبنية: تتميز لغة المجموعة بالشاعرية والاقتصاد في الوصف، دون أن تفقد قدرتها على الإيحاء. يعتمد الكاتب أحيانًا على الحوار الداخلي والمونولوج، وأحيانًا على المشهد المسرود بعيون الراوي، ويستخدم البناء الحلقي في بعض القصص، والتصعيد التراجيدي في أخرى.
خاتمة: “أنثى مثل حبة التوت” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل فسيفساء سردية لعالم يعج بالتفاصيل الصغيرة والمصائر الكبيرة. هي مجموعة قصصية عن الوجع الإنساني بكل أطيافه، عن الشوق القديم للمدن، عن الفقراء النبلاء، وعن نساء ورجال يقاتلون كل يوم لكي يحتفظوا بحياتهم.
مجموعة غنية بالتنوع، وموحدة من حيث النسق الإنساني، تستحق أن تقرأ أكثر من مرة، وأن تصدر في طبعة تليق بقيمتها الأدبية والوجدانية.
تُعد مجموعة “أنثى مثل حبة التوت” تجربة سردية شديدة التميز، تنفتح على عوالم إنسانية عميقة، وتغوص في مناطق الألم والتأمل والحنين.
هي مجموعة قصصية تستدعي من القارئ الإصغاء لا للحكاية فقط، بل للفكرة والمغزى الإنساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock