د.محمد سيد احمد يكتب :فلسطين بين قرارات الأمم المتحدة وأسطورة أرض الميعاد !

في سبعة عقود ونيف، شكلت قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة سجلًا قانونيًا وسياسيًا واضحًا، لا لبس فيه، على عدالة القضية الفلسطينية من منظور الشرعية الدولية. فمنذ القرار 181 الصادر عام 1947، المعروف بقرار التقسيم، مرورًا بعشرات القرارات اللاحقة التي أكدت حق الفلسطينيين في تقرير المصير ورفض الاستيطان والضم والاحتلال، وصولًا إلى القرارات الصادرة في الأيام الأخيرة بالتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ظل الموقف الدولي – نظريًا على الأقل – يقر بوجود شعب حرم من وطنه وبحق سلب بالقوة. غير أن هذا السجل ظل حبرًا على ورق، يضرب به العدو الصهيوني عرض الحائط، في تحد سافر لإرادة المجتمع الدولي، وتواطؤ مكشوف من القوى الكبرى التي وفرت الحماية السياسية والعسكرية لهذا الكيان.
إن الإشكالية هنا لا تكمن في غياب القرارات، بل في استحالة تنفيذها من منظور المشروع الصهيوني ذاته. فإسرائيل، بوصفها كيانًا استيطانيًا إحلاليًا، لم تنشأ يومًا لتكون دولةً طبيعية خاضعة للقانون الدولي، بل لتكون رأس حربة لمشروع توسعي يتناقض جوهريًا مع أي اعتراف حقيقي بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. من هذا المنطلق، لا يمكن للإسرائيل أن تنفذ قرارات تعترف بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، لأن ذلك يهدم الأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه.
هذا الأساس يتمثل فيما يروج له صهيونيًا، ويعاد إحياؤه سياسيًا وإعلاميًا على لسان قادة اليمين المتطرف، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، من أن “دولة إسرائيل المزعومة” تمتد “من النيل إلى الفرات”. وهو شعار ليس مجرد خرافة خطابية، بل تعبير مكثف عن تصور توراتي يرى في الأرض الممتدة بين هذين النهرين “أرض الميعاد” التي وعد بها الرب بني إسرائيل، وفق القراءة الصهيونية للنصوص الدينية. وعندما يصف نتنياهو حربه بأنها “حرب مقدسة”، فإنه لا يخرج عن هذا السياق، بل يضع الصراع في إطاره العقائدي الوجودي، لا السياسي أو الحدودي.
ومن منظور علم الاجتماع السياسي، فإن أخطر ما في هذا التصور هو أنه يحول الصراع من نزاع قابل للحل عبر التسويات والقرارات الدولية إلى صراع صفري، يقوم على نفي الآخر بالكامل. فوجود الشعب الفلسطيني، وكذلك وجود العرب عمومًا في المنطقة الواقعة بين النيل والفرات، ينظر إليه كعائق تاريخي يجب إزالته، إما بالاقتلاع القسري، أو التهجير، أو الإبادة البطيئة عبر الحصار والتجويع والتفتيت الاجتماعي. ومن هنا نفهم لماذا لم تكن النكبة حدثًا عابرًا في عام 1948، بل لحظة تأسيسية لمشروع ما زال مستمرًا بأشكال مختلفة حتى اليوم.
إن الوعي العربي بهذه الحقيقة بات ضرورة تاريخية لا تحتمل التأجيل. فالصراع مع العدو الصهيوني ليس صراع حدود ترسم على خرائط، ولا نزاعًا على ترتيبات أمنية أو اقتصادية، بل هو صراع وجود. وجود أمة في مواجهة مشروع استعماري استيطاني يستهدف الأرض والإنسان والذاكرة معًا. وكل محاولة لتبسيط هذا الصراع أو اختزاله في مسارات تفاوضية معزولة عن سياقه التاريخي والحضاري، إنما تصب – عن قصد أو غير قصد – في خدمة المشروع الصهيوني.
ومن المنظور القومي العربي، الذي رأى في الوحدة العربية شرطًا للتحرر والتنمية والاستقلال، لا يمكن النظر إلى القضية الفلسطينية بمعزل عن الواقع العربي العام. فالتجزئة العربية، والتبعية الاقتصادية، والانقسام السياسي، هي البيئة المثلى التي يزدهر فيها المشروع الصهيوني. وعلى العكس، فإن أي نهوض عربي حقيقي، قائم على التكامل والوحدة وتحرير الإرادة السياسية، من شأنه أن يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب المركزية، لا قضية شعب معزول يترك لمصيره.
إن قرارات الأمم المتحدة، رغم أهميتها القانونية والأخلاقية، لن تتحول إلى واقع ملموس ما لم تسند بقوة سياسية عربية موحدة، وبوعي شعبي يدرك طبيعة الصراع وحقيقته. فالعدو الصهيوني لن ينفذ ما يتعارض مع مشروعه الوجودي، ما لم تفرض عليه كلفة تاريخية تفوق مكاسب العدوان. وهذا الدرس، الذي علمنا إياه تاريخ الصراع، ينبغي أن يكون منطلقًا لإعادة بناء الاستراتيجية العربية على أسس الوحدة والمقاومة الشاملة، دفاعًا عن الأرض والإنسان والمستقبل، اللهم بلغت اللهم فاشهد.









