كتاب وشعراء

سِنُونُ الرَّمَادِ…..بقلم مريم أبو زيد

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

في ظِلِّ الغِياب، حين أَنْتَزِعُ الخيال من رأسي، وأُلقي بالأحلام في بحور النسيان، أجلسُ فوق جدار الصمت. أفكر في تحريك عقارب الساعة، أو قطع المرحلة الزمنية من محطة إلى أخرى، والعودة إلى الوراء كَسِنَةٍ ضوئية. أسعى لتغيير الواقع، وأتخيله حقيقةً… ولكن هل أمتلك هذه القدرة؟ وهل تستطيع النفس البشرية أن تمحو ما تحمله الذاكرة من أنين، وأن تتحرر من الأحلام، وأن تتمرّد على الواقع المزيّف؟
ثم أعود إلى حقيقةٍ مرة: نعيش في بلد يلفّه الفسادُ بكل أنواعه. فساد الفكر والفن، حتى الثقافة صارت ملفوفة بشريطٍ رمادي. والمثقف في وطني إما أن يبقى صامتًا، أو يرحل خوفًا من عالم لم يعد يتسع لطموحاته وأفكاره… وأحلامه. فيطير مع السنونو حين يقرر الرحيل، يفتح أشرعة أبوابه ليلتقط الفرص. لكنه يترك في مكانه حبات تراب أرضه التي حضنت أجداده وأحبابه. ويعيش في عالمه كجسدٍ يمشي بين الناس، بينما يحمل في داخله بركانًا عميقًا.
وحين تعلو تنهيداته، تختنق تصوراته. فيسمع موسيقى فيروز ووديع الصافي، ويتذكر أحلامه المنسيّة التي ركنها عند مفترق الطريق خلف شارع بيته. ويتذكر صور الشبابيك المزركشة بألوان عدة، حين كان يبحث عن وجه حبيبته التي وعدها بالزواج، ثم سرق أحلامها وارتحل مع وعوده الكاذبة.
آه يا وطني، لماذا تغيّرت؟ أصبحت مغلفًا بالدخان، وهذا السحاب الأبيض الذي يعلو مع الدخان يغطي أجنحة عصافير بلادي، فتوقفت عن التغريد وأخذت تسكن أعشاشها. وطيور السنونو حلقت بجناحيها إلى عالم لا يسكنه الخوف، بحثًا عن البقاء. فكيف سُرقت أحلامنا وضاعت في متاهات الخوف؟ هل سنرجع يومًا إلى أوطاننا ونجدها كما كانت في الزمن الجميل؟ أم أن كل هذا مجرد أحلام؟
أتساءل: إذا غلفنا أحلامنا بالأمل، هل نستطيع أن نزيل الردم عما تكسر منها؟ وهل سيقوم لبنان، بلد الأنبياء والمعجزات، الذي كان مزارًا لشعوب العالم، من تحت الردم، ويتم إنعاشه من جديد؟
كل هذه الأسئلة تضخ في أفكاري، ثم أعود إلى وسادتي الخالية البياض، وأخاطب نفسي بأن كل ما مر بذاكرتي أضغاث أحلام. أعيش غربتي كما لو كنت جسدًا بلا روح، بينما يثور داخلي على واقعي الذي تمردت عليه.
سقطت أقنعة الخوف من السفر الطويل، فسافرت من جديد، قطعت جبال الخوف ووصلت إلى بر الأمان. دخلت إلى عالمي الذي كنت أعيش فيه، فرأيت كل شيء قد تغير. حتى الوجوه قد لبست أقنعة النفاق والكذب، وقرأت في وجوههم ألف حكاية وحكاية.
دخلت داري… لم أعرف ما فيه، وما يحويه. أصبح فارغًا من كل شيء، ولم يبق سوى التصاوير المعلقة على جدار الحائط. وتذكرت الورود الصفراء على شرفة المنزل… تبا، رأيتها ذبلت. وأتذكر أمي وابتسامتها… أبحث عنها في أرجاء المنزل، وأسمع صدى صوتها يناديني. أما أبي، فأتخيله واقفًا عند كل باب. بكت جدران البيت وتجهّمت.
عدت إلى نفسي، وبكيت على خيبتي. فقررت الرحيل من جديد، لعلي أجد وطني حين أعود ثانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock