حمزه الحسن يكتب :بعيداً عن الضجيج

ربما لا يعرف البعض ان الشاعر والمفكر ادونيس بلا اي صفحة تواصل ومن دون حسابات شخصية وما يظهر له من معجبين لان الثقافة كما يرى تتاسس في التأمل والسر لا في العلن والتهريج والمفاخرة في عالم أصم،
كذلك الشاعر والروائي السوري سليم بركات ــــــــــــــــ في السويد ــــــــــ الأكثر عزلة في الأدب العربي الذي لا يظهر في وسائل اعلام وهناك من يقول انه لا يملك هاتفا خلوياً ويعتقد بركات ان حياة الكاتب في نصوصه لا في ظهوره لان هذه من اختصاص المطربين ومن ليس عندهم ما يتأملونه.
الروائي المصري بهاء طاهر ايضا، الروائي الليبي ابراهيم الكوني، بعض حسابات الروائي واسيني الاعرج ليست له وقد تكون الروائية احلام مستغانمي استثناء لانها الاكثر حضورا على منصات التواصل ويرى البعض ان السبب انها بعد رواية” فوضى الحواس” و” ذاكرة الجسد” لم يعد لديها ما تضيفه وفرغت الجعبة لذلك حاولت تكرار نفسها في اعمال جديدة حققت بعض النجاح” الجماهيري” الذي لا يعد نجاحاً نقدياً.
لا نزار قباني ولا محمود درويش حسب مصادر مؤكدة يملكون حسابات لكن هناك صفحات يديرها معجبون او مؤسسات للذكرى. الكاتب والشاعر والروائي ليس ناطقا رسميا باسم حكومة لكي يعبر عن نفسه عن كل حدث في عالم مليء بالصراعات لكنه يختزن مواقفه في مؤلفات تصل يوما الى جمهور أوسع بل تتحول الى مراجع كما ان الظهور المتكرر يقلل من هيبة الكاتب كما ان هؤلاء من اجيال مختلفة مع الاجيال الحالية وقد يتعرضون للاساءات وليست لديهم خبرة في التعامل مع هذه النماذج لانهم عاشوا مع جيل رصين وجدي ومهذب.
الامر لا يتوقف على كتاب عرب فحسب بل حتى على كتاب كبار في العالم مثل الروائي الياباني هاروكي موراكامي الغائب عن وسائل التواصل نهائياً رغم مكانته العالمية في الرواية ومرشح مرات لنوبل لكنه يقضي وقته في الرياضة والموسيقى والتامل والقراءة والسفر والكتابة والصفحات التي تظهر باسمه صادرة من دور نشر وصرح مرات بوضوح إنه لا يقرأ ما يُكتب عنه.
الكاتبة إيلينا فيرانتي ليست بلا صفحات تواصل فحسب بل مجهولة تماما بلا صورة ولا احد يعرف وجهها وحتى اسمها الحقيقي ولا تحضر ندوات وليست عضوة في منظمات ثقافية ولا ترد على دعوات وتقول: عندما يخرج الكتاب لا يحتاج الى مؤلفه وهو يخضع لامتحان الجدارة”. ليت بعض كتابنا يسمعون هذه النصيحة والتوقف عن دعاية بالمدافع الثقيلة عن كتاب لم يصدر بعد مع جوقة ردح من الضفة الاخرى دون ان تعرف شيئا.
أحد أكبر روائيي أمريكا توماس بينشون يلقب بـــــ ” الشبح” لم تظهر له صورة ولا في حفل ويرفض الجوائز ومنصات التواصل ويعتبر الكتابة كسماع الموسيقى والنزهة والحلم شأن شخصي لا يحتاج الى اعلان. الذي يستحق الاهتمام ليس الكاتب بل الكتاب. من منا اليوم يفكر بصانع الهاتف بشكله الجميل الانيق الذي وصل حجمه الى حجم خاتم؟
الروائي الحائز على نوبل كازوو إيشيغورو الياباني الاصل البريطاني الجنسية مبتعد عن أي تواصل في صفحات تواصل لان الكتابة في رأيه تحتاج الى صفاء ذهني وتأمل وتفرغ وقد ظهر مرات قلائل في ندوات مرتبة كبرى.
الروائي كورماك مكارثي لم يظهر له حساب ابدا وظل حتى وفاته يستعمل الالة الكاتبة التقليدية حتى اعتقد البعض انه شخصية متخيلة .
“” الروائي الفرنسي الذي فاز بجائزة بوكر العالمية مرتين واستخدم اسمًا مستعارًا هو «رومان غاري» (Romain Gary)، فاز بها عام 1956 عن روايته «أغاني لودرو» (Les Racines du ciel) وفاز بها مرة أخرى عام 1975 عن رواية «الحياة أمامنا» (La Vie devant soi) تحت اسم مستعار هو «إميل آجار» (Emile Ajar).
الروائي الامريكي المصنف ما بعد الحداثي مؤلف” ثلاثية نيويورك” بول أوستر يعد نموذجا صارماً في الابتعاد عن التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. بلا كمبيوتر ولا يحمل هاتفاً محمولاً . يكتب بيده ويطبع على آلة كتابة كلاسيكية. لا يتعامل مع البريد الالكتروني إلا من خلال مساعديه. يعتبر العزلة قرارا شخصيا كذلك الكتابة وله الحق في اختيار وسيلة مناسبة ونمط حياة خاص . بلا حسابات شخصية على كل المنصات. مات وهو مصمم ان يكون بعيدا عن الضجيج وقريبا من الحلم والكتابة والعزلة: كتب رواية:” شتاء العزلة”
يرى باحثون ان الاسباب تتراوح بين احترام الوقت والذات وبين الفصل بين المؤلف وكتابه ونحن العرب لا نفصل ونلجأ الى النقد السريع بمفاهيم غير نقدية بل اجتماعية وحتى سياسية او قراءة عقائدية لنص أدبي تتحكم به عوامل مختلفة وهناك اسباب شخصية مثل الروائي ج م. كويتزي مؤلف رواية” في انتظار البرابرة” حاز على نوبل واعتذر عن الحضور وحاز على البوكر مرتين في سابقة لم تتكرر واعتذر عن حضور الحفل.
أعرف شخصياً بعض الكتاب العرب الذين يكتبون كل يوم بغزارة دون ان يظهر ذلك على صفحات التواصل .
هل يحتاج الأدب الى اعلان أو تهريج كحفل غنائي؟ يوم كتبت مرغريت ميتشيل روايتها الوحيدة الخالدة من فراش المرض لقضاء الوقت” ذهب مع الريح” لم يكن أحد يعرف ذلك وصارت أيقونة الأدب الأمريكي عن الحرب الأهلية وكذلك ” مرتفعات وذرينج” لـــــــــــ إيميلي برونتي كتبتها للتخلص من الوحدة والضجر في بيت كبير منعزل وأب صارم وكذلك كتبت أخواتها ” شارلوت برونتي” و” آن برونتي”.
نجيب محفوظ الاكثر شهرة لم تكن عائلته تعرف عن اي شيء يكتب، بناته فاطمة وأم كلثوم اعترفتا انهما لم تقرآ رواياته الا بعد فوزه بنوبل.
بعض” كاتبات عربيات” قلائل من حسن الحظ يكتبن نصاً مع صورة اغراء لهن كما لو خارجة من حمام أو شاطئ في استعراض رقمي يعكس تناقض النص مع الصورة ــــــــــــــــ نص رصين وصورة مبتذلة ــــــــــــــ التي هدفها البقاء تحت الضوء وليس الاهتمام بالنص الذي وضع كديكور لتمرير صورة .
قد يتحدث النص عن المصير والحرية والوجود الأصيل ونقد التفاهة في حين الصورة تناقض النص فيما يعرف بالتنافر المعرفي cognitive dissonance بين موقفين او شعورين متناقضين حيث القارئ يقع بين التركيز على النص أو على صورة خالية من الرصانة:
استعمال الصورة كطعم ليس لقارئ بل لمشاهد والكاتبة الى موديل ويجعل من “الكاتبة” وجها اعلانياً كما على بضاعة وليس وجهاً ثقافياً.
الكاتبة رضوى عاشور لم نر لها صورة الا نادراً من عدسة أخرى لكننا نستغرق في قراءة النص . صنف كاتبات الاغراء لا يبحثن عن قارئ بل عن مشاهد معجب وعن فرصة لها علاقة بالجسد لا باللغة ولا بالثقافة. الدليل في كل نص صورة اغواء. هو اعتراف ضمني ان النص بلا قيمة لكن الصورة منقذة. وفعلا منقذة كمطرب عربي يثرثر وخلفه جوقة راقصات بثياب الضباب ولا احد يسمع ما يقول بل ما يجري خلفه.
أما فرانز كافكا فكانت الكتابة عنده عملية سرية كشغف وحنان وحلم ورؤيا لا يجب أن يراها أحد أو يتحدث عنها وعاش متخفياً عن نخبة براغ الادبية حتى وفاته عندما نشرت اعماله التي تحولت الى تيار في الرواية العالمية.
حتى أجاثا كريستي أشهر كاتبة روايات بوليسية كتبت باسم مستعار لسنوات ماري ويستماكوت دون علم العائلة.
يكون الكاتب أكثر حرية عندما يكتب بسرية دون اعلان لانه لن يكون مقيداً بالوقت وبلا أي التزام وتكون مصيبة كبرى لو اعطى النص لشخص غير متخصص في الرواية وقد حدث معي مرة واحدة لاستلم رأياً لا علاقة له بالرواية ولا الثقافة بل عملية حرق، وفي حالات كثيرة ينسف الروائي كل ما كتبه وخطط له من مصادفة او تجربة عابرة او فكرة ويبدأ من جديد وهو أمر معروف حتى ان الروائي أرنست همنغواي كتب خاتمة رواية” وداعاً أيها السلاح” 47 مرة ومن يقول 60 كما في المخطوطات التي تظهر رغبته في الاتقان الصارم، وغابريل ماركيز كان يكتب ويمزق ويرمي في سلة النفايات وزوجته تلتقطها خلفه ونشرت كثيراً من تلك القصص المرمية.









