رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :المنافي التسعة

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

” في الوطن نكتشف المنفى، وفي المنفى نكتشف الوطن” ـــ عبد الرحمن منيف.
المنفى ليس مكاناً بل المنفى هو روح وذات هائمة وهو حالة اغتراب حتى داخل الوطن عندما يشعر الانسان انه تفصيل فائض عن الحاجة وبرغي صغير في عجلة ضخمة تسحقه.
عندما لا تكون أنت كما تريد بل كما يراد لك، هذا هو المنفى، بل أقذر المنافي، لأن منافي الأمكنة توفر فرصة للحياة والنمو والبدء من جديد بل الولادة من رحم عالم نظيف ومختلف.
عندما لا يكون الانسان سيداً على مصيره، فذلك هو المنفى. قد يكون المنفى المكاني يبعد الشخص عن المكان الأول، لكن منفى الوطن ــــ أو الاغتراب يبعده عن انسانيته ويحيونه ويكون عذابه أضخم لو كان واعياً لهذا العذاب أو وعي الاغتراب، أما من تحول الى بهيمة فتتشابه في نظره الأمكنة والاشياء والمواقف لان الانسان الذليل يفقد مع الوقت حواسه الانسانية ولا يعود يميز بين الحياة الحقيقية والحياة المزيفة بتعبير مارتن هايدغر: الذليل لم يعد بشراً إلا في الشكل لذلك يستغرق الوقت الأطول في التمرأي في المرايا بحثاً عن كائن مفقود ولو أطلق النار على صورته في المرآة، لسقط فأر في الغرفة.
التعريف الأدق للاغتراب Entfremdung هو فقدان السيطرة على المصير وتحول الانسان الى” جزء ميكانيكي من طبقة” أو مجتمع ولا يفقد هويته الفردية فحسب بل هويته الانسانية.
أهم منافي الوطن:
المنفى الأول: منفى اللغة.
مع اننا نتكلم بلغة ونكتب بأخرى، لكننا أيضا نتكلم بلغات حسب الظرف والمكان والسلطة ،
بحيث تصبح اللغة ليست أداة تواصل بل اداة نفي،
أو لعبة للتجنب والتحاشي.
تشظي اللغة يحول الانسان الى حطام بشري من المرض والصداع والدونية والكذب.:
نتكلم بلغة ونفكر بأخرى هو الموت بقناع.
انه المنفى الذي يلغي الذات الحقيقية التي ستطمر تحت الانقاض.
منفى اللغة متعدد ومتشعب: بعض نخب الادب والسياسة لا تعيش في وطن، بل في نصوص، وطن التراب مجهول ومنسي، لكننا نعرف وطن النصوص .
منفى النصوص نخبوي.
المنفى الثاني: منفى الذات.
لا يتعرف العراقي على ذاته الا في الشطح والحلم والتسلطن لأنها نائية وفارة ومطمورة
تحت مختلف أنواع السلط،
وهي ليست ذاتا فردية مسحوقة وملغاة بل مجمع سلط،
لذلك يخاف العراقي من البوح ومن كتابة السيرة الذاتية لأن الذات المصنعة من مختلف السلط لا تروى عن نفسها لأنها لا تعرفها، ولأن السيرة سيرة نظام أو جماعة، في حين ان الفردية لصيقة بالشيطان أو اللاثوري الاناني كما يُلقن.
ومن يكتب سيرة ذاتية عليه تحمل الأسوأ.
المنفى الثالث: منفى الطبيعة.
علاقة العراقي بالطبيعة علاقة ديكور لأن الذات ملغاة ولأن اللغة المعبرة عن هذه العلاقة متشظية،
والمرايا المهشمة لا تعكس الواقع كما هو بل تعكس صورة محطمة.
الطبيعة، في نظم القمع، ديكور وليست بنية جوهرية وجسداً آخر.
الطبيعة مكان للتلصص خلف الاشجار أو في العشب وليست مكانا للنزهة.
المنفى الرابع: منفى التاريخ.
التاريخ العراقي تاريخ تخيلي أو تاريخ مروى شفاهيا،
وهذا النوع من التاريخ الرغبي عرضة للاهواء والرغبات،
ونحن لا نملك تاريخا واحدا مفسرا كما هو حال شعوب الارض،
بل نملك رواة لهذا التاريخ،
اي ان الجانب الجوهري من الهوية مشوه.
ليس التاريخ هو تاريخ المتخيل فحسب،
بل الحاضر ونحن نرى الوقائع بعيون أخرى،
ونقيّم الاخر كما تخيلناه أو تخيله أحد ما وكالة عنا.
أي ان علاقتنا بالآخر علاقة تخيلية،
ليس كما هو بل كما نتخيله،
نقبله أو نرفضه ليس بناء على تجربة مباشرة بل بناء على عالم تخيلي:
نحن سجناء التاريخ وسجناء الحاضر أيضا،
لا يملك الآخر حقيقته الخاصة بل هذه” الحقيقة” نتصورها نحن،
في ضرب من التنجيم المبرقع بثقافة قشرية،
من دون وعي لهذا التناقض المخزي:
بين حرية وحق الآخر في أن يكون كما يريد وبين حدود حريتنا.
لا وجود للآخر إلا عندما نراه أو نتخيله في صور وأوضاع وهمية:
نحتقر الجلاد ونمارس أقذر من دوره.
المنفى الخامس: منفى اللسان.
اللسان حسب التعريف الالسني قاموس وتراث وعادة وعرف ومؤسسة وقانون،
ونحن نكتب باللسان وليس باللغة الفردية،
وفي نظم الخوف يتم تحوير اللسان لكي يصبح منسجما مع أنواع السلط،
والعراقي بدافع التحاشي يتكلم بأكثر من لسان،
وليس غريبا هذا التدجين والترويض المستمر عن ” لسانك حصانك ان صنته صانك الخ”
وظاهرة قطع اللسان عريقة في التاريخ لأن اللسان ملكية عامة كالمباول
يقطع عندما يخرج عن العرف والمؤسسة
والويل لمن يتكلم أو يكتب بلغته الفردية
لغة البوح العميق للمشاعر والافكار
بل عليه ان يتكلم ويكتب لغة الجماعة او القاموس .
المنفى السادس: منفى الجسد.
لا يتعرف العراقي على جسده لأن هذا الجسد طمر لغة وذاتا ومشاعرا تحت سلطة وانقاض،
وغطست الغرائز والرغبات المشروعة تحت القيعان،
وبعضها تعفن وعفن الجسد معه،
وبعضها يُعثر عليه في كابوس او حلم أو هذيان،
وتمارس المتع الانسانية في مناخ العتمة والسر بعيدا عن السلط المتكاثرة،
والويل لمن يتحدث عن حكاية حب عارية ونقية مثلاً،
في حين من المباح أن يتحدث القتلة واللصوص عن جرائمهم علناً:
يصبح الجسد خرقة كمعطف عتيق يلبسه الفرد.
ليس غريبا ان يصدر النظام السابق قرارا يحكم بالاعدام كل جندي يؤذي جسده في الحرب،
لأن هذا الجسد ملكية عامة كأعمدة الهاتف والكهرباء والاسلحة والمباول والخ.
ويقطع لسان كل من يخرج عن اللغة المقررة،
يصبح الانسان مدفنا عفناً لنفسه.
إنه الميت الماشي.
يمشي في شوارعه كغريب بين غرباء واشباح وانقاض متنقلة.
المنفى السابع: منفى الدين.
في ظل انقسام حاد وتعدد طوائف الدين الواحد،
تضيع الهوية الحقيقية للدين الذي يصبح قابلاً للتفسير الرغبي،
وتعدد منافي الدين يخلق لدى البعض مشاعر إثم،
وانتماء مختلفة يصل حد الصراع المسلح،
وليس أفضل من مشاعر الاثم في خلق الانسان السهل الانقياد
لانه لا يريد الحرية بل الغفران عن خطايا التاريخ.
المنفى الثامن: منفى الكاتب والمثقف. هو اسوأ وأخطر وأكثر المنافي حيرةً واغتراباً.
الكاتب والمثقف بصورة عامة في كل مكان بتعبير ناقد فرنسي، فانسان جوف، يدخل في منفى من لحظة حمل القلم ويدخل في صراع مع الجميع وحتى مع ذاته المزيفة، من لحظة التخيل ينفصل عن الواقع ويدخل معه في صراع مهلك، بداية الورطة تخيل عوالم موازية.
وعليه إما أن يولد من رحم ثقافة بديلة أو يتحول الى ببغاء أو يتحطم.
فكيف اذا اضيفت المنافي السابقة؟وماذا نفعل يا محمود درويش:
” حين يصبح الوطن منفى والبيوت سجوناً؟”
المنفى التاسع: منفى السلطة والحرية.
عندما يكون الانسان غريبا في داره وداخل ذاته ولسانه وطبيعته ودينه وجسده،
يصبح أقرب الى العبد منه الى المواطن،
بل أقرب الى الشيء ومع تعدد الاجيال تتحول عبودية الاكراه الى عبودية
طوعية كتقاليد وأخلاق ونمط حياة، وهو الاعتقال الذاتي.
الوطن الحقيقي أن تتتفتح فيه كوردة،
أن يكون صديقاً وحارساً وحديقة أزهار لا سجنا كبيراً بعنوان مزيف: وطن:
الإغتراب أقسى المنافي ولو في بيتك الأول.
هذه ليست كل المنافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock