رؤي ومقالات

إدريس آيات يكتب :الإدراكات العربية والأفريقية الخاطئة في قراءة ملف أرض الصومال- ( جزء 1)

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

‏ثمّة قدرٌ ملحوظ من الالتباس يطغى على مقاربات عدد من المحلّلين لملف أرض الصومال، التباسٌ يبدأ من الشعارات ولا ينتهي عند التفسيرات الجاهزة. في مقدّمة هذه الإدراكات الخاطئة، ترديد مقولات من قبيل أنّ رئيس أرض الصومال، الدكتور عبد الرحمن محمد عبد الله «عرو»، مجرّد أداة في مشروع صهيوني، وأنّ الإقليم يُوظَّف لضرب العرب ومصالحهم في المنطقة. هذا النوع من التحليل، مهما بدا جذّابًا في ظاهره، يبتعد عن الواقع الاجتماعي والتاريخي للصومال وأرض الصومال معًا.
‏فالصومال وأرض الصومال ينتميان إلى عرقية واحدة، هي العرقية الصومالية، ولا يقوم الاختلاف داخل الجغرافيا الصومالية إلا على البنية العشائرية. عشيرة إسحاق، على سبيل المثال، هي العشيرة الغالبة في أرض الصومال. وبغضّ النظر عن الموقف المبدئي الرافض لتجزئة الدول الأفريقية وتحويلها إلى كيانات صغيرة، تبقى حقيقة أساسية لا يمكن القفز فوقها: سكان أرض الصومال مسلمون، ويبلغ عددهم نحو ستة ملايين نسمة. الحديث عن «مشروع صهيوني» ظهر فجأة في هذه الرقعة الجغرافية لا يستقيم مع هذه المعطيات، كما لا يستقيم ربط المسألة مباشرة بما جرى في غزة، وهو ربط لا يسنده تسلسل الأحداث ولا تاريخ القضية.
‏من المفيد هنا التذكير بأنّ إسرائيل كانت من بين أكثر من ثلاثين دولة اعترفت بالظهور الأول لأرض الصومال حين أعلنت استقلالها في السادس والعشرين من يونيو/حزيران 1960، قبل قرار اندماجها في نهاية الشهر نفسه مع إقليم الصومال الإيطالي. ومع إعلان الاستقلال الثاني من طرف واحد عام 1991، بدأت سلطات هرجيسا مسارًا طويلًا للبحث عن شرعية الاعتراف الدولي، مستندة إلى خطاب يقدّم الإقليم بوصفه مساحة استقرار نسبي في محيط إقليمي مضطرب يعجّ بالأزمات الأمنية.
‏من هذا المنطلق، فإنّ تفسير القضية بوصفها مجرّد جزء من مشروع إسرائيلي–إثيوبي لضرب الدول العربية، باعتبار الصومال عضوًا في جامعة الدول العربية، يظل تفسيرًا تآمريًا مبسّطًا، لا يلامس عمق التعقيدات القائمة. المسألة أوسع من ذلك بكثير، وتحتاج إلى قراءة تتجاوز ثنائية الاتهام والتخوين.
‏الأمر نفسه ينطبق على الحديث عن إثيوبيا بوصفها دولة تتحرّك حصريًا من موقع التحالف مع إسرائيل للإضرار بمصالح العرب أو حتى بمصالح الغرب. إثيوبيا، وهي أكبر دولة من حيث السكان والاقتصاد في القرن الأفريقي، لا تزال تنظر بعين الريبة إلى دعم عدد من الدول العربية، وفي مقدّمتها مصر، لاستقلال إريتريا عنها، وما ترتّب على ذلك من فقدان ميناء عصب وتحولها إلى أكبر دولة حبيسة في المنطقة. من هذه الزاوية، تنظر أديس أبابا إلى أرض الصومال بالطريقة نفسها التي نظرت بها سابقًا إلى إريتريا: إذا كان لإريتريا حق الانفصال، فلماذا لا يكون لأرض الصومال الحق ذاته؟ ومن هنا تتقدّم الحسابات العملية: إمكانية تقديم الدعم، والحصول في المقابل على منفذ بحري عبر ميناء بربرة. في هذا السياق وُقّعت مذكرة التفاهم مطلع عام 2024. اختزال هذا المسار كلّه في تآمر مع إسرائيل لأهداف إسرائيلية خالصة يتجاهل الاعتبارات الجيوسياسية والمنافع التي تحرّك دولًا مثل إثيوبيا، وحتى أوغندا، في مقاربتها لملف أرض الصومال.
‏أخذ هذه الحقيقة البسيطة في الاعتبار يفتح الباب أمام قراءة أكثر توازنًا لملف أرض الصومال، قراءة تنطلق من تشابكات السياسة في القرن الأفريقي، لا من عدسة واحدة تُسقِط كل شيء على إسرائيل. والحقيقة الأولى، التي لا يجوز إغفالها، أنّ سكان أرض الصومال صوماليون من العرقية نفسها، مسلمون، ويؤمنون بقضية انفصالهم انطلاقًا من كونهم عاشوا تجربة استقلال سابقة ونالوا اعترافًا دوليًا قبل الاندماج مع الدولة الصومالية الأم. هذه الحقيقة تفسّر لماذا فضّلت الحكومات المتعاقبة في مقديشو، على مدى عقود، معالجة الأزمة بالحوار السياسي والتفاهمات، لا باستخدام العنف أو القوة العسكرية. فالعلاقة هنا ليست علاقة مركز بأطراف غريبة، بل علاقة أبناء عمومة، وأبناء خال، ودم واحد.
‏هذه المعطيات لا تُستخدم، في نظري، لتبرير دعوات الانفصال، ولا لتسويغ التعاون مع إسرائيل من أجل نيل الاستقلال، لكنها تظل عناصر ضرورية لفهم واقعي للقضية، بعيدًا عن التسطيح والتفسيرات السهلة لمسألة معقّدة ومتجذّرة.
‏كل من تحدّثت معهم من الأصدقاء في أرض الصومال، وغالبهم يرفض أصلًا تعاون حكومة الإقليم مع إسرائيل ولا يرى في اعترافها شرفًا، يجمعون على أنّ الأمور وصلت إلى هذا الحد بسبب غياب مقاربة عربية أو إسلامية جدّية لملفهم لقرابة 35 عامًا. هذا الغياب أفضى إلى شعور بالعزلة، والمنبوذ، في العادة، يتّجه إلى أي طرف يُظهر له قدرًا من التعاطف أو التضامن.
‏في هذا السياق تحديدًا يمكن فهم مشاهد احتفال بعض مواطني أرض الصومال بالاعتراف الإسرائيلي، وصولًا إلى ارتداء العلم الإسرائيلي أو استخدامه كوشاح، لا بوصفها تحوّلًا هويّاتيًا، بل تعبيرًا عن فراغ سياسي وعاطفي تركته البيئة المحيطة.
‏من هنا، يصبح الاستغراق في تفسيرات المؤامرة داخل العالمين العربي والإسلامي والأفريقي، والاكتفاء بترديد مفردات المشروع الصهيوني، أقل فاعلية من السعي إلى بلورة مقاربة عربية أو أفريقية لملف أرض الصومال. سياسة المعاقبة بالعزلة، كما أثبتت التجربة، لا تؤدي إلا إلى مزيد من الاعترافات الخارجية التي تبدو في طريقها إلى التراكم. ومن المفيد هنا التذكير بمعطى أساسي غالبًا ما يُهمَل: الداعم الأكبر لمسار الاعتراف بأرض الصومال ليس إثيوبيا ولا حتى الإمارات العربية المتحدة، بل بريطانيا. توفرّ لندن منصّات لسكان الإقليم، وتدعم قضاياهم إعلاميًا، وتفعّل لوبيات سياسية لصالحهم، كما ترسل مراقبين إلى الانتخابات التي تُجرى في الإقليم، وهو إقليم يُصنَّف ديمقراطيًا وفق معظم المعايير الدولية.
‏خلاصة القول، إنّ في أرض الصومال ستة ملايين مسلم، إخوة في الدين والهوية. يمكن الاستمرار في التحليلات التآمرية، أو يمكن اختيار مسار آخر يقوم على التقارب، والعمل على احتوائهم، وبناء مسار يعيدهم، على المدى البعيد، إلى حضن إخوتهم بدل دفعهم أكثر نحو الخارج.
‏فلا تنس أنّ لصوماليلاند، علمها الخاص، عملتها الخاصة، وجواز سفر خاص، حاليًا لديهم المقدرة للسفر به فقط إلى إمارة دبي، وعملتهم تتبادل فقط مع الدرهم الإماراتي، إذا واصلت عوالمنا معاقبتهم بالعزلة فغالبًا وجهتهم القادمة ستكون تل أبيب، ليس لأنّهم يريدون ذلك، لكن لأنّه الخيار الوحيد المُتاح لديهم.
‏الخيار خيارنا هل سنترك 6 ملايين من إخواننا يتجهون نحو تل أبيب أم نُعيدهم للحضن؟ مع التأكيد القاطع لرفضنا لخيارات الانفصال وتفتيت دولنا!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock