رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :قتلة خلف الباب

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

من قال إن الضحايا لا يكافئون القتلة؟ ليس بتقديم باقة زهور ولا غيرها. لكي تكافئ قاتلاً مريضاً منحرفا إمنحه هوية أو صفة غير هوية المنحرف والبربري.
غالباً ما يُطرح هذا السؤال: كيف يقوم شخص بتعذيب ضحيته جسدياً أو نفسياً بل قد يصل الأمر الى تقطيعها وخيانتها دون أية مشاعر بالذنب أو الندم؟ الندم والضمير أمران مترابطان كالزهرة والتويج ولا وجود لأحدهما بلا الآخر.
المسألة تتجاوز علاقة الجلاد بالضحية في سجن عندما يقوم الجلاد بتحويل ضحيته الى شيء أو ما يعرف بــــــــــــــــ بالتشيؤ reification أي تجريد الآخر من انسانيته وتحويله الى شيء وممارسة كل أنواع التعذيب والاذلال عليه لأن” الشيء” فاقد الحس ، ولأن الجلاد لا يتعاطف مع شيء أو راديو أو هاتف أو تفكيك باب أو دراجة بل هذا يحدث حتى في العلاقات العامة.
القسوة، الخيانة، القتل، التقطيع، تحتاج الى تبرير الذي يلغي مشاعر الندم والذنب ويجعل عملية التعذيب النفسي أو الجسدي عملية ميكانيكية أو تسليع الآخر كحاجة منتهية الصلاحية وبذلك تتحول هذه الجريمة الاخلاقية الى عملية باردة محايدة مما يلغي الصراع الداخلي.
حتى لو تحطم في الضحية أحد الأعضاء، فلن يكون الأمر مهما لأن الآخر لا يتعاطف مع شيء بارد ميت كتحطم زجاج أو عتلة باب بعد حذف العلاقات الانسانية التي تعطي السيطرة التامة والقسوة الباردة مع المتعة ، وعندما تصل الضحية الى درجة العجز التام في الدفاع عن نفسها، يصل الآخر الى ذروة النشوة أو حتى الشهوة لأن هذه السيطرة المطلقة على فرد أو جماعة في سجن أو في غيره يعطي الآخر قوة مضاعفة في الشعور بالسيطرة وفي حالات كثيرة يكون دافع هذه السيطرة والاذلال انعكاساً لتجربة اذلال عاشها الجلاد أو الفاعل ويمارسها هنا كتعويض ضد ضحايا عزل للتنفيس عن ذل معتق.
في السجون مثلا يحمل السجناء أرقاماً أو القاباً عندما يتحول التشيؤ الى واجب لكن ما لا يعرفه الجلاد هو أنه يُعذب ويتعذب، يشوه ويتشوه.
خلال لقاء مطول لي مع الممثلة محسنة توفيق بطلة فيلم العصفور ليوسف شاهين، قالت انها مثلت دوراً في مسرحية” دماء على نوافذ السهرة” وهي فنانة ملتزمة مثقفة من النادر تواجد مثلها في تلك السنوات:
منعت مسرحية” دماء على نوافذ السهرة ” التي مثلت دور زوجة رجل تعذيب للكاتب أنطونيو بايخو الاسباني الذي أعدم والده خلال الحرب الاهلية الاسبانية 1937 ثم حكم عليه هو بالاعدام ثم خفف الى ثلاثين سنة تنقل خلالها في سجون عدة حتى اطلق سراحه لكن بشرط النفي وهو الصديق الاقرب للشاعر لوركا الذي أعدم تلك الفترة. لكن رجل الأمن يصاب بالعقم ويذهب الى طبيب يسأله عن مهنته ويعترف له بها . يقول له الطبيب” أنت تشوه وتتشوه”.
هذه العملية لا تمر بسلام وبلا عواقب وخيمة وأول متضرر هو الضمير الذي يتحطم وبعدها يصبح الباب مفتوحاً لكل أعمال الشر. لكن هل هؤلاء المرضى نتاج عقيدة منحرفة أو أفكار خاطئة فقط ام خلف هذه الوحشية دوافع فردية وجدت في العقيدة ، من أي نوع، غطاءً للجريمة وكسبت هوية جديدة وصارت تمارس وحشيتها تحت هذا القناع؟
لا يمكن التعامل مع هؤلاء من باب التحليل السياسي بل من باب علم النفس المرضي كمختلين عقلياً لان الانسان الطبيعي يتوجع من افعال هؤلاء وهو الفارق بين الانسان السوي والمختل.
هذا الصنف من القتلة يعد تطوراً في الشذوذ البشري ولا يتورع هؤلاء عن ممارسة كل أنواع السلوكيات المنحطة.
يشعر هؤلاء بالاثارة التي تتفوق على الاثارة الجنسية في رؤية الضحية تعاني أو تتعذب. اللذة هنا نوع من التعويض عن حقارة نفسية أو نبذ إجتماعي أو شعور بالعار والدونية وغير ذلك وهي متعة النصر الوحشي .
التحليل السياسي السطحي هو براءة ذمة لهؤلاء القتلة والنصابين والمرضى ونقلهم من حقل الامراض المشوهة الى قادة وزعماء وأصحاب عقائد،
وهو ما رفضته المفكرة الكبيرة حنة آرنت خلال محاكمة النازي المخطوف
رتشارد آيخمان في القدس ثم اعدامه وحرق جثته ورميها في البحر.
رفضت في كتابها”آيخمان في القدس: تفاهة الشر” وقد حضرت جلسات المحاكمة في القدس، في أن يكون آيخمان قاتلاً نازياً مؤمناً بعقيدة، بل رأت فيه “كشخص ضحل بلا ضمير وتافه وسطحي وبلا مشاعر” ولا يؤمن بأي عقيدة أو نظرية و” قاتل المكتب” هذا لم يسمع في حياته ما يندد بضمير السوء.
هؤلاء خطر حتى على النظام الذي ينتمون اليه لأنهم سينقضون عليه للدوافع نفسها بلغة التبرير نفسها والجنون نفسه.
عندما يقوم المنحرف بتحويل ضحاياه العزل إلى” أشياء” يسهل تفكيك أجسادهم أو اذلالهم أو الاساءة اليهم حتى لو كان مسؤولاً عن عائلة، كما يفكك الشخص جهاز راديو أو عجلة أو سيارة، وفي هذه الحالة لا يتعاطف الانسان مع آلة:
التشيؤ Reification تحويل الآخر الى شيء والتعامل معه على هذا الأساس يبرر كل الأفعال القذرة ضده،
من الخيانة إلى القتل والتعذيب مع مبدأ جديد لم تعرفه البربرية القديمة وهو المتعة والتلذذ بالقتل. البربريات السابقة تكتفي بالقتل.
وهو ما يؤكد عليه إريك فروم الفيلسوف وعالم النفس والاجتماع في كتابه المرجعي ” النيكروفيلية” أو النزعية التدميرية،
وهي نزعة لا توجد عند الحيوان لأن هدفه الشبع فقط، في حين التدمير الممنهج خاصية بشرية، وليس فقط التدمير بل متعة القتل ولذة التعذيب،
حتى لو كان قد وضع ذلك في إطار أو تبرير عقلاني،
وعادة ما تقف قناعات وافكار خلف هذا النوع من الوحشية ولغة مبررة.
لماذا لم يطرح هذا السؤال حتى اليوم: جرائم القتل في السنوات الأخيرة في العراق لماذا تمت من وسط قريب؟ من زوجة أو صديق أو عشيق أو زميل أو جار؟ ليست الحجارة قوية بل الزجاج هش:
علاقات مبنية على الأقنعة لكنها أقنعة متينة جداً وقد تستمر لسنوات. عندما تقع جرائم من هذا النوع كما في اعترافات القتلة والشهود والجيران والضحية الناجية كثيراً ما نسمع عبارة:
” لم نكن نتوقع هذا منه لانه كان انساناً طيباً”،
هؤلاء كانوا يتعاملون مع قناع في غاية الدقة والاناقة مثل من ينام على وسادة معطرة تحتها عقرب قاتل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock