بيان شخصي ضدّ وطنٍ رسمي….بقلم محب خيري الجمال

لم أولد في وطن،
وُلدتُ في طابور.
طابورٍ أطول من النهر،
وأضيق من الحلم،
وأقدم من الأسف.
كانت البلاد تمسك بطاقتي الشخصية
وتنسى وجهي،
تعدّ أنفاسي في الإحصاء وتحذفني من الحياة.
قالوا: هذا وطنك،
فبحثتُ عنه في الخبز
فوجدته محجوزًا باسم الخطاب،
بحثتُ عنه في المدرسة
فوجدته معلّقًا على الجدار كخريطةٍ لا تصلح للسفر،
بحثتُ عنه في النشيد
فعضّ لساني كي لا أغنّي.
وطني لا يمشي، يتقدّم بالبيانات، ولا يحزن،
يصدر تعميمًا، ولا يموت،
يفتح قناةً إخبارية ويجلس ليشرح لنا
كيف نجا من جثثنا.
أبي كان يعرف الطريق إلى العمل
ولا يعرف الطريق إلى الغد،
يخرج صباحًا وفي جيبه وطنٌ صغير
مثقوب من كل الجهات،
يعود مساءً وقد تبخّر الوطن وبقيت الرائحة.
كان يقول:
“اصبروا”،
وكأن الصبر مهنة عائلية تورَّث مع الفقر ومع شكل الأنف.
أمّي كانت تخبز الدعاء،
تعجنه بظهرها وتُدخله فرن الانتظار،
كلّما انتفخ الوهم قالت: الحمد لله،
وكلّما احترق قالت: الحمد لله أيضًا.
كانت تعرف أن الله كبير،
لكن البلاد أكبر من قدرتها على الفهم.
في الحيّ كنّا نلعب بالعلب الفارغة،
ونسمّيها أوطانًا،
كلّ واحدٍ منّا كان رئيسًا بلا شعب
وجنديًا بلا بندقية
وشهيدًا بلا صورة.
كبرنا، فصارت العلب قصورًا
وبقينا نحن فارغين.
رأيت الوطن في التلفاز أنظف من شرفتنا،
أكثر ترتيبًا من قبورنا،
يتكلّم لغةً لا نفهمها
ويبتسم بأسنانٍ لا تشبه أسناننا.
كان يقول: “نحن بخير”،
وأنا كنت أبحث عن كلمة تشبهني في هذا الجمع.
سماسرة الوطن لا يرفعون أصواتهم،
يرفعون الأسعار.
لا يلوّحون بالأعلام،
يلوّحون بالملفات.
يعرفون كيف يحوّلون الدم إلى نشرة،
والجوع إلى شعار،
والخوف إلى قانون.
هم لا يسرقون البلاد،
هم فقط يديرونها كشركة خاسرة لكن برواتب مجزية.
قالوا:
“من لا يحب الوطن خائن”،
فأحببتُه بصمت كي لا أُعتقل،
وبكيتُه سرًّا كي لا أُتّهم،
وكلّما حاولتُ أن أصرخ
وضعوا في فمي خطابًا جاهزًا
وطلبوا منّي التوقيع.
وطني يشبه أبًا
يحبّ أبناءه في الخطب
ويضربهم في البيت،
يشبه أمًّا
تبيع ذهبها
لتشتري صورًا للعائلة،
يشبه إلهًا يرى كل شيء ولا يتدخّل
لأن الميزانية لا تسمح.
أنا لستُ ضد الوطن،
أنا ضدّ هذا الكذب الذي يرتدي اسمه،
ضدّ هذا القبر الجماعي
الذي يسمّونه استقرارًا،
ضدّ هذا الصمت
الذي يُدرَّس في المدارس كمادة وطنية.
أريد وطنًا
لا يحتاج إلى دمٍ ليُقنع نفسه أنه حيّ،
ولا يحتاج إلى عدوّ ليبرّر فشله،
وطنًا
حين أقول له: أنا متعب
لا يطلب منّي أن أكون شهيدًا كي أستريح.
إلى ذلك الحين،
سأمشي خفيفًا فوق هذه الأرض الثقيلة،
وأخبّئ قلبي في جيبي الخلفي،
وأعامل الوطن كما يُعامل الجرح المفتوح:
بحذر،
وبألم،
وبكثيرٍ من الحقيقة.









